عاجل

كيف يؤثر الدور الروسي في مالي على نفوذها بالساحل الإفريقي؟

مالي
مالي

في تطور سياسي يعكس تغير موازين القوي في منطقة الساحل الإفريقي، أجرى الرئيس المالي المؤقت “أسيمي جويتا” زيارة رسمية إلى موسكو، تحمل في طياتها دلالات سياسية، وعقب زيارته لروسيا في الفترة من 22 إلى 26 يونيو أكد “جويتا” أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” على أتم الاستعداد لدعم “تحالف دول الساحل” بما يشمل إنشاء قوة مشتركة تتكون من 5000 جندي، مشيرًا إلى تقديم موسكو دعمًا عسكريًا مُسبقًا لمالي، لمجابهة التنظيمات الإرهابية التي تشهد تصاعدًا ملحوظًا في البلاد، وهو ما يعكس سعي موسكو لتعزيز حضورها في المنطقة، مستغلة الفراغ الذي تركته القوي الغربية لا سيما فرنسا. إلى جانب رغبة العديد من الدول الإفريقية وخاصة دول الساحل الإفريقي إلى تنويع شراكاتها وتحالفاتها الدولية. كما شملت الزيارة الاتفاق على تعزيز التعاون في عدة مجالات، مثل الطاقة والنقل والاقتصاد بجانب البعد الأمني، وتأتي الزيارة في وقت تشهد فيه منطقة الساحل تغييرات جيوسياسية متسارعة، ويبدو أن باماكو عازمة على إعادة رسم موقعها في المنطقة.

ووفقًا لدراسة أعدها مركز رع للدراسات الاستراتيجية، وتأسيسًا على ماسبق؛ يتطرق هذا التحليل إلى الإجابة على سؤال، هو: ما هي أبعاد الدور الروسي المتصاعد في مالي وتداعياته على الساحل الأفريقي؟

أبعاد متعددة:

تشتمل الزيارة على أبعاد متعددة، يتم استعراضها فيما يلي:

(*) تنويع التعاون في عدة مجالات بجانب المجال الأمني: أسفرت الزيارة عن توقيع البلدين عدة اتفاقيات في مجالات متعددة، تهدف إلى تعزيز التعاون الثنائي من خلال إنشار لجنة حكومية روسية-مالية لتوطيد التعاون التجاري والاقتصادي والتقني، وتوسيع تحالفهما الاستراتيجي، خاصة في مجال الطاقة والأمن، فضلاً عن ذلك توقيع اتفاقية في مجال “الاستخدام السلمي للطاقة النووية” بالشراكة مع شركة “روساتوم” الروسية، تمهيدًا لبناء محطة نووية بتصميم روسي في باماكو، مما قد يقلص من استيراد باماكو للطاقة، بالإضافة إلى ذلك وقع “بوتين” و “جويتا” اتفاقية تحدد أسس العلاقات الثنائية بين البلدين، تتضمن الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل منهما، مع التضامن في المحافل الدولية. وعليه، قد يرجع الهدف الاساسي من توقيع هذه الاتفاقيات إلى رغبة موسكو في جعل مالي حليفًا استراتيجيًا لها في منطقة الساحل، تمهيدًا لتعزيز نفوذها المتنامي في إفريقيا. كما تسعي روسيا إلى ملءالفراغ الذي تركته الدول الغربية في أفريقيا، من خلال تقديم نفسها كبديل داعم دون شروط سياسية تُزعج الأنظمة العسكرية لدول الساحل، وذلك في ظل الضغوط الغربية على باماكو للعودة إلى الحكم المدني وعقد الانتخابات.

(*) تعزيز استراتيجية التعاون الأمني بين باماكو وموسكو: تأتي زيارة الرئيس الانتقالي “جويتا” في وقت يتصاعد فيه نشاط الجماعات الإرهابية من تنظيمي “داعش” و “القاعدة”، حيث تكثف الجماعات المُسلحة هجماتها، إذ تعرضت معسكرات ونقاط تفتيش الجيش المالي لهجمات مُستمرة أبرزها هجوم على قاعدة “بولكيسي” بوسط مالي من قبل جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” التابعة لتنظيم “القاعدة”، وأسفر الهجوم عن مقتل ما لا يقل عن 30 جنديًا، فضلاً عن تقدم تنظيم “القاعدة” نحو جنوب مالي واقترابه من العاصمة باماكو، ولذلك ربما تكون الزيارة جزءًا من دوافع “جويتا” في بحث سبل تعزيز  استراتيجية التعاون الأمني مع موسكو لمواجهة التهديدات الأمنية المستمرة، خاصة وأن البلاد تعاني من حالة عدم استقرار منذ عام 2021، مع تنامي الفراغ الأمني عقب انسحاب القوات الفرنسية في 2022 من باماكو، وتحاول موسكو استغلال الفراغ الأمني لعزيز نفوذها في مالي بشكل خاص ودول الساحل بشكل عام.

كما جدد “بوتين” اعتزامه لدعم “تحالف دول الساحل” من خلال تقديم الأسلحة المتطورة والتدريب العسكرية لقوة مشتركة تتكون من 5000 جندي من المقرر نشرها في دول الساحل المضطربة، لمكافحة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، ويأتي هذا القرار بعد انسحاب مالي والنيجر وبوركينا فاسو من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”.

 وجدير بالذكر، قيام روسيا في أبريل الماضي بتوقيع اتفاقيات دفاعية مع “تحالف دول الساحل” لتعزيز تعاونها العسكري، حيث زودت هذه الدول بمعدات عسكرية متطورة، بهدف توسيع حضورها الجيوسياسي في الساحل الإفريقي. كما قامت موسكو بتزويد مالي بأسلحة متطورة تتضمن مروحيات هجومية من طراز Mi-24، وطائرات نقل عسكرية وأنظمة رادار، بالإضافة إلى تلقي مئات الجنود الماليين تدريبات مُكثفة، مما أسهم في رفع الكفاءة القتالية للجيش المالي بشكل ملحوظ.

(*) تعزيز الطابع الرسمي للتدخل الروسي في باماكو: جاءت الزيارة عقب إعلان مجموعة “فاجنر” الروسية في 6 يونيو الماضي مغادرتها مالي بعد نحو 4 سنوات من الدور الأمني الفاعل في البلاد بعدد يتراوح ما بين 1000 إلى 2000 جندي، مما أثار التساؤلات بشأن احتمالية تراجع الدور الروسي في باماكو، ولكن قرار الانسحاب لم يكن تراجعًا بل إعادة تنظيم “فاجنر” عبر “الفليق الإفريقي” بإدراة من وزارة الدفاع الروسية وفقًا للتصريحات الروسية، خاصة وأن من 70-80% من أفراد الفيلق هم مقاتلون سابقون في “فاجنر”، مما يعزز الطابع الرسمي للتدخل الروسي وفق أسس واضحة تتضمن آفاق التعاون الأمني بين باماكو وموسكو.

(*) استغلال موسكو للثروات في مالي: تأتي الزيارة بعد أيام قليلة من وضع حجر الأساس لمصفاة الذهب في مالي، الذي تشرف على بناءها شركة “يادران” الروسية، بهدف الحصول على معالجة تصل إلى 200 طن سنويًا، وتستمر شركة “نوردجولد” الروسية في مواقع تعدين متعددة داخل مالي، وتتطلع باماكو من خلال هذا المشروع إلى تحول البلاد إلى مركزًا إقليميًا لتكرير الذهب في غرب إفريقيا، خاصة وأن صناعة الدهب قد تعمل على تنويع شراكاتها وتعزيز السيادة الوطنية على مواردها، فيما قد تطمح موسكو إلى استغلال موارد وثروات البلاد.

استراتيجية روسيا تجاه دول الساحل:

تتبع موسكو استراتيجية متسارعة في منطقة الساحل الإفريقي، تقوم على شراكات دبلوماسية وعسكرية وإعلامية، تجسدت في المؤتمر الوزاري الأول لمنتدى الشراكة الروسية-الإفريقية في نوفمبر 2024، حيث وعد “بوتين” بدعم القارة، خاصة في مجال مكافحة الإرهاب، وكان هذا المؤتمر بالنسبة لروسيا بمثابة حجر الأساس لكسر محاولات الغرب لعزلها، بالتوازي مع تزايد التأييد الشعبي لها، إذ أظهر استطلاع جالوب ارتفاعًا بنسبة 22% في الموافقة على القيادة الروسية بين عاني 2020 و2023 في غرب إفريقيا.

كما اعتمدت روسيا على الشركات العسكرية شبة الخاصة على مجموعة “فاجنر”، وحاليًا تعمل على إعادة تدوير عناصرها في “الفيلق الإفريقي” لكي يكون التدخل بشكل أكثر رسمة بإدارته من وزارة الدفاع الروسية، وذلك لتعزيز الأنظمة غير الديمقراطية وتوسيع نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، لم يؤدي هذا الدور إلى تحسين أمني ملموس، بل ساهم في تصعيد العنف وتزايد الانتهاكات الحقوقية، بدلاً من تحسين الأمن، بالإضافة إلى ذلك، تُوصف الاستراتيجية الروسية في الساحل بأنها انتهازية، إذ استغلت الانقلابات وتوتر العلاقات مع الغرب وخاصة فرنسا، لتقديم نفسها كشريك بديل لا يشترط الديمقراطية ولا يضع قيود على الأنظمة العسكرية، كما فعلت “فاجنر” في أفريقيا بالسيطرة على الموارد ومؤسسات الدولة مقابل تقديم خدماتها للأنظمة العسكرية. ومع ذلك، استراتيجية موسكو نفسها وهي السيطرة على الموارد ولكن بطريقة غير مباشرة.

علاوة على ما سبق، تلعب روسيا دورًا متزايدًا في دعم “تحالف دول الساحل”، من خلال شراكة شاملة تشمل التعاون الدفاعي والاقتصادي والدبلومسي، حيث تلتزم موسكو بتعزيز القدرات العسكرية للتحالف، وتزويده بالأسلحة والمعدات الفنية والتدريبية، فضلًا عن دعم مشاريع تنموية وتوريد الغذاء والطاقة. كما تنسق مواقفها مع التحالف في المحافل الدولية، وتوظف نفوذها، خاصة في مجلس الأمن، لحماية مصالحه، في إطار توجه مشترك لرفض التبعية وبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب.

وفي عام 2025، عززت موسكو وجودها العسكري في مالي والنيجر من خلال “الفيلق الإفريقي”، مع دخول قوافل عسكرية روسية إلى مالي عبر غينيا، الأمر الذي يُشير إلى جهود الكرملين لتعزيز وجوده العسكري في البلاد تحت قيادة الفيلق. كما تسعي موسكو للوصول إلى الذهب واليورانيوم والموارد الطبيعية الأخري في المنطقة، حيث وصل نحو 2500 روسي إلى دول تحالف الساحل بين عامي 2022 و 2024، والذي بات يشكل كتلة موالية لموسكو في قراراتها داخل الأمم المتحدة.

تداعيات مُحتملة:

بناءًا على ما تقدم، فإن الزيارة تحمل في طياتها العديد من التداعيات، يمكن توضيح أبرزها فيما يلي:

(&) تحسين مسار التنمية في مالي: من المُتوقع أن تعزز زيارة “جويتا” إلى موسكو من التوجة الاستراتيجي لمالي، وتفتح الباب أمام تدفق استثمارات روسية جديدة في مجالات البنية التحتية والطاقة، ويُمثل الالتزام بتطوير قطاع الطاقة النووية، تحولاً محتملاً في مسار التنمية في باماكو، وذلك في حال تم تنفيذ المشروع على أرض الواقع بشكل مستدام.

(&) تنامي التغلغل الروسي في غرب إفريقيا: من المُتوقع أن تسهم الزيارة في ترسيخ الوجود الروسي داخل مالي بشكل أكثر عمقًا واستمرارية، وذلك من خلال تقديم دعم مباشر للأنظمة العسكرية بما يشمل التدريب العسكري للجنود الماليين وتقديم الاسلحة المتطورة وبناء منظومة ردع متكاملة.

(&) إعادة تشكيل موازين القوي في منطقة الساحل: قد يؤدي تعزيز الشراكة بين روسيا ودول الساحل إلى تعميق تراجع نفوذ فرنسا والولايات المتحدة في المنطقة، مقابل تصاعد النفوذ الروسي وربما الصيني، مما يدل على تلاشي ثقة “تحالف دول الساحل” في الشراكة مع الدول الغربية. كما أن قدرة موسكو على تقديم دعم عسكري واقتصادي دون شروط سياسية، قد يجعلها خيارًا دائمًا ومفضلاً لدي الأنظمة العسكرية، مما يكرس نمطًا جديدًا من الاصطفافات الجيوسياسية في الساحل، ويعزز من استقلالية هذه الدول عن الإملاءات الغربية، مما قد تعزز الشراكات المتنامة مع روسيا إلى مزيد من  التوتر مع فرنسا والقوي الغربية.

(&) احتمالية التخطيط لقاعدة طائرات بدون طيار في منطقة الساحل: رغم غياب دلائل مؤكدة على نية روسيا إنشاء قاعدة للطائرات بدون طيار في الساحل، فإن المضي في هذا الاتجاه يمثل فرصة استراتيجية لتهديد مصالح الناتو في المتوسط. وقد اعتمدت القوات الروسية هناك حتى الآن على طائرات تركية تُشغّلها الدول المضيفة، دون ورود طائرات بدون طيار ضمن الشحنات الروسية الأخيرة. لكن تصاعد إنتاج روسيا لطائرات “شاهد” الإيرانية يشير إلى احتمال توسيع استخدامها. وإذا نُشرت قرب أغاديز، فستُصبح ضمن نطاق منشآت حيوية أمريكية وأطلسية، مما يمنح الخطوة بُعدًا استراتيجيًا مهمًا.

ختامًا، يمكن القول إن تصاعد النفوذ الروسي في مالي ودول الساحل الإفريقي، يُمثل تحولاً استراتيجيًا في إعادة ترتيب موازين القوي الإقليمية والدولية في منطقة الساحل، خاصة وأن الحضور الروسي في المنطقة لا يُعد مجرد ظاهرة عابرة، حيث تسعي موسكو لتكريس حضور طويل الأمد يتجاوز ملء الفراغ الغربي لا سيما الفرنسي، ويتوقف مستقبل هذا التوجه على مدى قدرة موسكو على تحقيق شراكات مستدامة، وأيضًا على مدى قدرة دول الساحل على إدارة تحالفاتها الجديدة دون الوقوع في تبعية جديدة بثوب مختلف.

تم نسخ الرابط