شيخ الخياطين.. أنامل رسمت عظمة السادات ووقار الشعراوي

في زقاق ضيق بالقرب من مسجد السيد البدوي بمدينة طنطا، حيث تختلط رائحة الزمن القديم بعبق الأقمشة الفاخرة، يجلس الشيخ سيد المبيض، الرجل الذي تجاوز عمره الخامسة والثمانين، لكنه لا يزال يمسك بالإبرة وكأنها جزء من روحه.
في محله العريق، الذي يعود تاريخه إلى 130 عامًا، لا تزال الماكينات تدور والأيدي تنسج بخبرة السنين، وكأن عقارب الزمن توقفت احترامًا لهذه الحرفة المتوارثة.
يقول الشيخ سيد المبيض، لـ “نيوز رووم” وهو يمرر يده على قطعة قماش فاخرة، بعين خبيرة ترى فيها أكثر من مجرد نسيج: "ورثت المحل عن والدي، وسأورثه لأولادي، لأن المهنة دي مش مجرد شغل، دي تراث لازم يستمر".. لم تكن هذه الكلمات مجرد حديث عابر، بل هي عقيدة راسخة يحملها الرجل الذي صنع بيديه أزياء خلدها التاريخ.
حكايات بين خيوط القماش
لم يكن محل الشيخ سيد مجرد ورشة خياطة، بل محطة مر بها عظماء وشخصيات بارزة، فبين زبائنه كان الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي اختار قفطانه من بين أنامل هذا الحرفي العتيق، أما الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فقد اقتنى منه عباءة وجلابية نالت إعجابه بشدة، حتى أنه قدّم له شيكًا بقيمة 500 جنيه، وقال له بابتسامة تقدير: "ده ليك، ولما تديه لوالدتك قولها من السادات".
لم يكن الأمر مجرد معاملة تجارية، بل اعترافًا بجودة حرفة أصيلة لا يُضاهيها شيء، وحين ذهب الشيخ سيد ليصرف الشيك، اكتشف أن والدته قامت بصرفه قبله، وكأنها كانت تعلم قيمة تعب ابنها في كل غرزة حياكة.
حرفة لا تموت رغم تغير الزمن
في ورشته الصغيرة، تصطف الأقمشة المطرزة، وتدور ماكينة الخياطة بلا توقف، بينما يجلس الشيخ سيد وسط هذه التفاصيل التي شكلت حياته، ورغم انتشار الملابس الجاهزة واندفاع الأسواق نحو الحداثة، يؤكد بثقة: "اللي يعرف قيمة الحاجة الأصلية عمره ما يستغنى عنها." فليس كل ثوب يحمل روح صانعه، وليس كل قماش يُحاك بنفس الحب والاحتراف.
زبائنه لا يأتون فقط من طنطا، بل من جميع أنحاء الجمهورية، باحثين عن الجلابيب العربية الأصيلة التي أصبح من النادر العثور عليها بالجودة نفسها. فمحله لم يكن مجرد متجر، بل متحف حي يحفظ بين طياته قصة كفاح وصنعة متقنة لا تخضع لمعايير السوق الحديثة.
ورغم تقدمه في السن، يرفض الشيخ سيد التخلي عن مهنته، فهو لا يرى في الإبرة مجرد أداة، بل امتدادًا لحياته وتراثه، وبين ضحكته الواثقة ولمسات يديه التي لم تهتز رغم السنين، يظل هذا الرجل حارسًا لتراث الجلابيب العربية، واسمًا محفورًا في ذاكرة كل من ارتدى قطعة صنعتها يداه.