في تاريخ الأمم محطات لا تنسى، تتجاوز كونها مجرد أحداث لتغدو علامات فاصلة بين زمنين، بين خطر محدق وأمل منشود، بين ضياع وطن واستعادة الدولة، هكذا كانت لحظة الثالث من يوليو 2013، حين نطق الفريق أول عبد الفتاح السيسي، القائد العام للقوات المسلحة آنذاك، بيانا أعاد للمصريين يقينهم و أعاد للدولة بوصلتها، في مشهد استثنائي سيبقى محفورا في الذاكرة الوطنية كشاهد على عبقرية الشعب المصري عندما ينهض ليصحح المسار.
لم يكن بيان 3 يوليو قرارا عاديا أو خطوة سياسية معتادة، بل كان تعبيرا عن لحظة إنقاذ كبرى، انتفض فيها الشعب ليحمي هويته من الضياع، ويصون دولته من السقوط في قبضة مشروع اختطف الثورة وتاجر بالآمال، ففي ذلك التوقيت كانت مصر على حافة الانهيار، تتعرض لأخطر عملية تفكيك ممنهجة من قبل جماعة لا تعترف بالدولة الوطنية، ولا تؤمن بالتعددية، وتسعى لتغيير هوية المجتمع ومؤسساته لصالح تنظيمها العالمي.
كان بيان 3 يوليو صرخة شعب قال كلمته في ميادين مصر كلها، من التحرير إلى الاتحادية، ومن المنشية إلى سيدي جابر، ومن الزقازيق إلى أسوان، ملايين المصريين خرجوا ليعلنوا رفضهم لحكم استبدادي باسم الدين، ورفضهم للاستحواذ على مفاصل الدولة، وتغول الجماعة على السلطة القضائية، والمؤسسات الأمنية، ومحاولات السيطرة على الإعلام والتعليم، بل ومحاولات تفكيك الجيش نفسه.
إن من يقرأ بيان 3 يوليو قراءة عميقة، لا يمكن أن يغفل عن عمقه السياسي ودقته الدستورية، فهو لم يكن عودة لعصر ما قبل يناير 2011، ولم يكن انقضاضا على سلطة قائمة، بل كان استجابة حقيقية لمطالب الشعب، وتعاملا واعيا مع لحظة شديدة الخطورة، استدعت تدخل المؤسسة العسكرية لحماية الإرادة الشعبية، بعد أن وصلت الدولة إلى طريق مسدود، لا دستور يحكم، ولا مؤسسات تحترم، ولا سياسات تدار بعقل.
جاء البيان حاسما، لكن متزنا، جامعا بين الحسم والدستورية، بين الإرادة الشعبية وصوت العقل لم يقص أحدا، بل دعا إلى خارطة طريق تتسع للجميع، تبدأ بتجميد العمل بالدستور، وتشكيل حكومة تكنوقراط، وتعديل القوانين المنظمة للعمل السياسي، وإجراء انتخابات نزيهة، تعيد لمصر وجهها الديمقراطي الحقيقي، لا الزائف.
في حقيقة الأمر، فإن لحظة 3 يوليو كانت لحظة تجل للدولة المصرية العميقة، ولتاريخها العريق الذي لا يسمح بترك مصيرها في يد من يجهل معنى الدولة، لقد خرج الشعب مدعوما بمؤسسات وطنية راسخة – على رأسها القوات المسلحة – ليحمي مستقبله من مشروع إقصائي كاد أن يحيل مصر إلى دولة مشوهة بلا هوية، غارقة في صراعات داخلية، ومفرغة من مضمونها الحضاري والسياسي.
كان لا بد من تلك الوقفة الجادة، لتصحيح المسار، وبناء مشروع وطني جامع، يضع الدولة على طريق التنمية والاستقرار، لا طريق الاستقطاب والتشرذم، الثورات لا تكتمل لحظاتها إلا عندما تقوم اعوجاجاتها، وتستكمل أهدافها بتوافق وطني، لا احتكار القرار.
وقد أثبتت السنوات التالية لبيان 3 يوليو أن القرار لم يكن لحظة عابرة، بل كان بداية لمسار وطني شامل، بدأ بإعداد دستور جديد شارك في صياغته كل أطياف المجتمع، وانطلقت بعده مشروعات تنموية كبرى أعادت رسم خارطة مصر الاقتصادية والعمرانية والاجتماعية، مع استعادة الأمن والاستقرار، ومواجهة التحديات الإقليمية بحكمة وحسم.
وما زالت مصر حتى اليوم تجني ثمار تلك اللحظة الفارقة، بعد أن عبرت سنوات من الارتباك السياسي والتآكل الاقتصادي، و أعادت ترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية كلاعب رئيسي في قضايا المنطقة، ومركز توازن في عالم مضطرب وما كان لهذا الاستقرار أن يتحقق فقط إلا بفضل إرادة شعب قرر أن ينهض، وجيش انحاز لوطنه، وقيادة التقطت اللحظة و صاغت المستقبل.
واليوم، بعد أكثر من عقد من الزمان، تبقى ذكرى 3 يوليو مناسبة نستحضر فيها قوة التلاحم الشعبي، ونتذكر كيف يمكن للإرادة الجماعية أن تصنع المعجزات كما أنها لحظة لتأكيد أن الحفاظ على الدولة لا يعني الجمود، وأن الإصلاح السياسي لا يتناقض مع الاستقرار، بل يؤكده.
علينا أن نواصل المسيرة بنفس روح يوليو 2013، بروح الإنقاذ والبناء، وأن نحمي تجربتنا الديمقراطية من الاستغلال، و نصون وطننا من كل من يحاول العبث بمقدراته، وأن نضع نصب أعيننا أن الدولة القوية لا تعني السلطة القاهرة، بل القدرة على إدارة التعدد والاختلاف في إطار من الشرعية والمشاركة.
لقد انتصرت مصر في لحظة فارقة، لأن شعبها قرر أن يكتب تاريخه بيده، ويصنع مستقبله بإرادته، وهي الإرادة ذاتها التي ستقوده دائما نحو المستقبل الأفضل.