في القلعة البيضاء، حيث يُصنع المجد وتُولد الأساطير على عشب لا يرحم المتقاعسين، ووسط جمهور لا يعترف إلا بمن يفي بالوعد، وُلد اسمه مبكرًا… محمود عبد الرازق شيكابالا.
موهبة فطرية، رجل يمتلك قدماً يسرى تشبه عصا موسى حين تُسحر الجماهير بلمسة، ومهارات قلما تتكرر، وذكاء كروي يكاد يلامس حدود العبقرية في بعض اللحظات.
ومع ذلك، يظل شيكابالا واحداً من أكثر اللاعبين إثارة للجدل في تاريخ الزمالك الحديث، وربما في تاريخ الكرة المصرية عمومًا… لا لخطأ ارتكبه وحده، بل لمسيرة كان يمكن أن تكون ذهبية، فاختارت أن تكون من نحاس مصقول ببعض الذكريات الجميلة.
•••
لم يكن الجمهور وحده هو من أسرف في تقدير موهبة شيكابالا، بل الصحافة أيضا، والنقاد، بل وحتى الخصوم. فالجميع أجمع على أن هذا الفتى يملك ما لا يملكه كثيرون، من المهارة والخيال، ومن الجرأة والثقة بالنفس.
لكن السؤال الذي يُطرح بعد أكثر من عقدين على ظهوره الأول بقميص الزمالك: هل قدّر شيكابالا نفسه حق قدره؟ أم أنه خان الموهبة حين سلّمها لأهواء اللحظة؟
شيكابالا – الذي خرج من تحت عباءة مدرسة الكرة في ميت عقبة – لم ينجح في فرض نفسه قائداً حقيقياً داخل المستطيل الأخضر، إلا في لحظات متفرقة، وكأن العبقرية عنده لا تأتي إلا على استحياء.
•••
ما يُحزن جمهور الزمالك ليس فقط أن شيكابالا لم يحقق ما كان يُنتظر منه، بل أنه حضر في مواسم الخسارة أكثر مما حضر في أفراح البطولات.
نعم، رفع الكأس هنا، وساهم في درع هناك، لكن التاريخ – كما تعلمنا يا سادة – لا يُحصي إلا الألقاب، ولا يخلّد إلا من يتوَّج.
شيكابالا لم يكن الرجل الحاسم في النهائيات الكبرى، لم يكن الورقة الرابحة في المعارك المصيرية. عاش طويلًا على رصيد الموهبة، وعلى محبة الجماهير، دون أن يترجم ذلك إلى إنجازات تليق بإسم “الاسطورة”.
أسطورة حقيقية… أم أسطورة مصنوعة؟
هنا يقف جمهور الزمالك منقسمًا.
هناك من يراه رمزاً خالصاً، وفارسًا من زمن نقي، يحارب وحده في ميدان لا عدالة فيه كما يتخيل هو . وهناك من يرى أنه “أسطورة وهمية”، صُنعت من الأهداف الجميلة لا من الألقاب، ومن الشعارات لا من الأداء المتّزن.
لكن ما لا يُمكن إنكاره أن شيكابالا ظل “قضية مشاعر”، لا قضية أرقام.
فالكرة الحديثة باتت لا تعترف إلا بالإحصاءات، وشيكابالا، للأسف، لا يملك ما يكفي منها ليُقنع خصومه بأنه فعلًا من طينة الكبار.
•••
لأن الجماهير لا تهتف بالأرقام، بل بالنبض.
شيكابالا هو آخر أبناء النادي بالمعنى العاطفي للكلمة. اللاعب الذي لم يغادر مركب الزمالك في أحلك الظروف، الذي عاد من الغربة بدمعة في العين، ورفع شعار “البيت أولًا”، حتى لو خانه البعض داخله.
إنه رمز للوفاء، للانتماء، للفانلة البيضاء، حتى لو كانت قدماه تتثاقلان، فإن قلبه يركض باسم الزمالك في كل لحظة.
هل حان موعد الاعتزال؟
السؤال المُحرج… والضروري.
فحين يصبح الجسد عاجزًا عن تنفيذ ما يأمر به الذكاء، وحين تتحوّل المساحات التي كانت ملعبًا للمهارات إلى عبء بدني، وحين يبدأ الجمهور نفسه في التساؤل بدلًا من الهتاف، فإن لحظة الحقيقة قد حلّت.
شيكابالا اليوم يبدو أنه يلعب ضد الزمن، ضد الجسد، وضد فكرة الاعتزال نفسها.
يريد أن يبقى، حتى وإن خانته اللياقة، حتى وإن غاب عن التأثير.
وربما يخشى النهاية أكثر من أي شيء. يخشى أن تتوقف الهتافات، أو أن تتحوّل إلى صفارات تصم الآذان.
"شيكا" يصر على البقاء، لا ليحقق بطولة جديدة – فقد انتهى ذلك الطموح على الأرجح – بل ليظل في الصورة. لكن الصور تبهت، والهتاف لا يدوم، والجماهير قد ترفعك على الأعناق مرة، لكنها لا تتردد في أن تُسقطك حين تشعر أنك تؤخر الزمن ولا تصنعه.
ربما على شيكابالا أن يختار نهايته، لا أن ينتظرها تُفرض عليه.
أن يخرج من الباب الكبير، لا أن يُسحب خارجه على مضض.
إنها قصة لاعب أحبّه الجمهور كما لم يُحب غيره، لكنه لم يُعطِه ما يستحق… شيكابالا: الجوهرة التي لم تلمع بما يكفي حان وقت الانصراف.