عاجل

صرخة ألم.. الطفولة تُباع بثلاثين جنيهًا في اليوم بالقليوبية

عمالة الاطفال بالقليوبية
عمالة الاطفال بالقليوبية

"نفسي أنام من غير صوت مكبّرات، نفسي آكل من غير ما أدوّر في الزبالة، ونفسي ألبس هدوم من غير ريحة دخان"... قالها "سامي"، طفل لم يتجاوز العاشرة، يعمل يوميًا من الفجر حتى الغروب في إحدى ورش شبرا الخيمة، مقابل 30 جنيهًا لا تكفي حتى لإشباع جوعه. عينا الطفل كانت تتحدث أكثر من لسانه، تشكو ظلمًا صامتًا ينهش جسده النحيل وطفولته الضائعة.

في محافظة القليوبية، لا تُقاس الطفولة بالسنوات، بل بدرجة المعاناة. الآلاف من الأطفال لا يعرفون معنى المدرسة، ولا طعم الأمان، يعملون صغارًا ويتألمون كبارًا، يُدفنون أحياءً في ورش بلا نوافذ، وفي شوارع تعج بالمخاطر، وفي عربات كارو تجرّها الأحلام الميتة.

ورش النار.. والعرق الحارق

من الخانكة إلى الخصوص، ومن قليوب إلى شبرا الخيمة، تنتشر ورش الحدادة والبلاستيك وصهر الزجاج، حيث يعمل الأطفال في ظروف قاسية، دون أدوات حماية، ولا تهوية، ولا حتى رحمة. أصغرهم لا يتجاوز التاسعة، يُلقى به بين أدوات حادة ونيران مشتعلة، ويُعامل كعامل بالغ رغم هشاشة جسده وروحه.

في ورش الخصوص، شاهدنا أطفالًا يحملون على أكتافهم أكياسًا ضخمة من مخلفات البلاستيك، ويقفون بالساعات وسط الأدخنة والحرارة. وفي شبرا الخيمة، سمعنا صراخ طفل تعثّر في ماكينة فرم بلاستيك، ولم يسأل أحد عن سلامته، لأنه "صغير وبيتعود"، كما قال صاحب الورشة.

التباع.. طفل يتدلّى من باب ميكروباص

في كل خطوط الأجرة من بنها إلى قليوب، ومن طوخ إلى شبرا، يقف الأطفال على أبواب الميكروباصات، يصرخون لجذب الركاب، يحملون أكياس الركّاب وكراتين التجار، ويعدّون النقود، ويتحمّلون إهانات بعض السائقين، في مهنة لا تليق حتى بالكبار. الطفل "حمزة" ذو الأحد عشر عامًا قال بصوت مبحوح: "الناس بتضربني لما مفيش فكة، والسواق بيشتمني، بس أنا لازم أشتغل علشان أجيب أكل لأخواتي".

القمامة.. رائحة القهر اليومي

في الخصوص وعرب العليقات ومقالب القمامة بالقلج، يعمل الأطفال في ظروف لا تليق حتى بالحيوانات، يبحثون وسط النفايات عن أي شيء يصلح للبيع، ويقضون النهار في التنقيب بين الزجاج المكسور والأكياس الملوثة والفضلات. كثيرون يُصابون بالجرب، والتيفود، والتهاب الصدر، ولا يجرؤون على الشكوى.

"كل يوم بنام على فرشة تحت عربية كارو، بحلم آخد دوش بس"، هكذا قال "فارس"، طفل نباش من الخصوص، وهو يفترش الرصيف بجوار كومة من المخلفات البلاستيكية التي جمعها طوال اليوم.

التسول المنظم.. جرح في كرامة الطفولة

في مجمع مواقف بنها، وأمام الأسواق والمواقف في شبرا وقليوب وطوخ، تنتشر ظاهرة التسول الجماعي للأطفال، يقف الطفل بيد ممدودة، وبقلب مكسور، يسأل الناس جنيهًا أو سندويتشًا، وهو لا يعلم أنه يُستغل. بعضهم يتبع شبكات تتقاضى منهم "نسبة"، وبعضهم يُهدَّد إن لم يجمع مبلغًا يوميًا.

من القمامة إلى النيابة.. جرائم بأسماء أطفال

تُسجل أجهزة الأمن يومًا بعد يوم بلاغات تتعلق بأطفال ارتكبوا جرائم سرقة، أو اعتداء، أو ترويج مخدرات. في بنها، سرق طفل موبايل تحت تهديد سلاح أبيض، وفي الخصوص، تم ضبط طفلين يُروّجان الاستروكس على دراجة كارو. وفي شبرا، أصيب طفل بقطع في اليد أثناء محاولة فتح محل لسرقته بأمر من أحد العمال الكبار.

هؤلاء الأطفال، كانوا يمكن أن يصبحوا علماء، أو رياضيين، أو فنانين، لكن الفقر دفعهم إلى الورش، والتشرد جرّهم إلى الجريمة، والمجتمع صمت.

شهادات من قلب الأزمة

قال  محمود عبد العزيز، مدير مركز الحرية لحقوق الإنسان: "عمالة الأطفال في القليوبية لم تعد مجرد حالة اقتصادية، بل تحوّلت إلى انتهاك ممنهج وصارخ للقانون والكرامة الإنسانية. نحن أمام جيل يُحاصر ويُستنزف قبل أن يعرف حتى معنى الحياة."

وأكد وحيد خلوى، الأمين العام الأسبق لجامعة بنها، أن "التعليم هو السلاح الوحيد القادر على إنقاذ هؤلاء الأطفال، لكن ما يحدث الآن هو تدمير متعمّد للمنظومة التعليمية، وتغافل مخجل عن حماية الأطفال، مما يدفعهم إلى حافة الهاوية."

وشدد المستشار مصطفى السعداوي، أمين صندوق نقابة المحامين بالقليوبية، على أن "قانون الطفل وقانون العمل يمنعان تشغيل الأطفال في المهن الخطرة، لكن التنفيذ غائب. لا بد من محاسبة أصحاب الورش، وسائقي الميكروباص، وأولياء الأمور، فهم شركاء في هذا الجُرم."

خاتمة موجعة

"نفسي مرة أصحى ألاقي نفسي لابس يونيفورم مدرسة، وماما صحيتني علشان أروح الفصل، مش علشان أركب الكارو"... قالها طفل في السابعة من الخصوص، وهو يجرّ كيسًا كبيرًا من المخلفات، ملامحه شاحبة، لكن عينيه ما زالت تتعلق بشيء اسمه "أمل".
 

عمالة الاطفال بالقليوبية

تم نسخ الرابط