عاجل

فى كل جيل، تظهر موهبة تشبه البلاد التى خرجت منها: خامة صوتية تُشبه الحارات القديمة، ونبرة قادمة من الشرفات المفتوحة، ووجع يحمل ضحكة خجولة خلف الملامح.
شيرين عبدالوهاب لم تأتِ من مسرح المعاهد أو قاعات الأوبرا، بل خرجت من قلب المناطق الشعبية، بملامح مصرية خالصة، وصوت فيه شجن الحواري وصدق البسطاء.
لم تحتَج إلى مجاز لغوي أو عُبّاد صنعة. كانت هى الأغنية. وكانت هى المعنى.

•••

بدأت شيرين من لا شىء تقريبًا، لكنها كانت تملك كل شىء: صوتًا يعرف متى ينكسر، ومتى يعلو، ومتى يهمس.
فى بدايتها، كانت أغانيها تشبه المشهد الاجتماعى كله: امرأة من قلب المجتمع، تحمل ذاكرة الحب والخسارة، وتغنى للعاطفة لا للشو .
فى زمن امتلأ بالأصوات المُصنعة، جاءت شيرين كنسخة نادرة… صافية رخيمة ، ونجحت سريعًا أن تكون “صوت القلب” لا مجرد “صوت السوق”.

لكنّ القمم لا ترحم، والضوء لا يترك أحدًا فى حاله.

•••

ما بين قمة النجاح وأوج الحضور، بدأت شيرين تفقد التوازن. لم تكن المشكلة فنية بقدر ما كانت إنسانية.
غابت عن مشروعها كما غابت عن ذاتها.
أصبحت حياتها الخاصة مسلسلاً لا ينتهى من الانكسارات العاطفية، والصدامات العائلية، والتعقيدات النفسية، إلى الحد الذى جعل الجمهور يتساءل: هل ما زالت قادرة على أن الغناء؟
القلق لم يكن على صوتها، بل على المرأة التى تحمل ذلك الصوت.
الفن عند شيرين كان دائمًا مرآة لحالتها الداخلية، ومع اضطراب الحياة، اهتزّت النغمة.
اختلط الصدق بالعشوائية، والتلقائية بالتهور ، وتحول الحضور الطاغى إلى ظل مُرهق يسير خلفها، لا يتقدّم بها.

•••

فى حالات كثيرة، الفن هو طوق النجاة الأخير.
لكن فى حالة شيرين، يبدو أن الفن أصبح هو ما يُنقَذ، لا ما يُنقِذ.

لقد أنقذت شيرين الأغنية المصرية فى زمن ما، لكن السؤال الآن: هل تستطيع أن تُنقذ نفسها؟

موهبتها لا تزال كما هى، لكنها فى حاجة إلى صمتٍ طويل، ونظر أعمق، وقرار بأن تعود فنانة لا نجمة، صوتًا لا خبَرًا، وهويّة لا فضيحة.
شيرين ليست مجرد مطربة. هى وثيقة موسيقية عن جيل كامل، وصوت صدقناه لأنه يشبهنا.
لكنها الآن تُواجه الاختبار الأصعب: أن تُعيد بناء ذاتها قبل أن تُعيد بناء صورتها.
فى المشهد العربى المزدحم بالأصوات والصور، تبقى شيرين حالة خاصة.
ليست فقط صوتًا نسائيًا جميلًا، بل قصة كاملة عن فتاة مصرية صعدت من القاع حتى أعلى السلم، ثم تعثّرت من فرط الضوء.
هل تُنقذ شيرين موهبتها؟
ربما… لكن فقط إذا تذكّرت لماذا غنّت أصلًا، ولمن!

تم نسخ الرابط