رمز روحي.. باحث يكشف سر تعلق المريدين والصوفية بالقطط| خاص

في أروقة الزوايا الصوفية، حيث يتردد الذكر وتتناغم الأرواح مع مشاعر الصفاء والسكينة، لا تبدو القطط مجرد حيوانات أليفة عادية، بل تحولت إلى رمز روحي يعكس قيم الطهارة والرحمة والزهد. هذه الكائنات الوادعة لطالما حظيت بمكانة خاصة في المعتقد والسلوك الصوفي، حيث اعتبرها المتصوفة مرآة للحال الباطني وأداة لتأمل الذات.
القطط بين رموز التصوف وتعاليمه
يشرح الباحث الصوفي مصطفى زايد أن الصوفية نظروا إلى القطط كرمزٍ للتطهر الداخلي والزهد، وليس فقط كحيوانات أليفة. ويستدل على ذلك بأقوال كبار الصوفية، ففي بغداد، وصف أبو بكر الشبلي القط بـ"دواب الرحمة"، وقال: "هي طاهرة مطيعة لا تؤذي إلا إذا أوذيت"، وهو ما رواه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "حلية الأولياء".
وفي قونية، حيث تُدرس تعاليم جلال الدين الرومي، كانت القطط تمشي بحرية بين المريدين، ورأى الرومي أن استقلال القطط رمز لتحرر الروح من قيود الأنا، ما يعكس جانبًا عميقًا من فلسفة التصوف في التحرر الروحي.
الممارسات الصوفية وتكريم القطط
داخل الخانقاه الصلاحية في القدس، كان الدراويش يتركون بقايا طعامهم للقطط، تعبيرًا عن صدقة ورحمة تجاه مخلوقات الله، وهو فعل يتوافق مع الحديث النبوي الشريف: "في كل كبد رطبة أجر". كما نقل الباحث زايد عن ابن الجوزي قوله في "صيد الخاطر": "من ضرب هرّةً بغير حق، فكأنما ضرب قلب وليّ من أولياء الله"، مما يبرز الرؤية الروحية التي تجعل من احترام الحيوانات جزءًا من سلوك الولي الصوفي.
كما كتب القشيري في "رسالته": "لا تُؤذوا الهرة، فإنها من جند الله الصامت"، في تأكيد على ضرورة الرفق بالحيوان كجزء من الأخلاق الصوفية.
قصص تلهم الرحمة والنقاء
لا تقتصر العلاقة بين الصوفية والقطط على الجانب الرمزي، بل تشمل أيضًا تجارب روحية وأحاديث تبرز أثر القطط في تهذيب النفس. يقول الشيخ أحمد الرفاعي، أحد أعلام التصوف، في مخطوطته "البرق اللامع": "إذا رأيتَ الهرة تلعب في المكان، فاعلم أن الرحمة قد نزلت".
وروى أحمد أفلاكي في "مناقب العارفين" أن أحد المريدين كان يعاني من جفاف قلب، فنصحه شيخه بإطعام القطط واللعب معها، فتغيرت حالته وذابت قسوة قلبه.
من القصص المؤثرة أيضًا قصة الشيخ عبد القادر الجيلاني، الذي كان يربي قطة في خلوته، معبرًا عن أن القطة تذكره بضعفه وحاجته الدائمة لرحمة الله.
القطط والدروس الروحية
حتى الإمام النووي، الذي يُعرف بكونه عالمًا فقهياً وليس صوفيًا بالمعنى الدقيق، أشار إلى رحمة الله في خلق القطط، قائلاً: "من رحمة الله أن خلق الهرّ مسالمًا لا يعتدي إلا إذا أُخذ حقه".
في زاوية الشاذلية بمصر، تُروى قصة مريد اتخذ قطة "مذكّرة بالله"، حيث نبهته في المنام إلى تقصيره في الذكر، فاعتنى بها واعتبرها وسيلته للتذكير الروحي.
الختام: القطط سرّ يمشي على أربع
يقول الباحث مصطفى زايد: "القطط ليست مجرد حيوانات، بل سر يمشي على أربع، تعلمنا الصمت والرفق والاستقلال". هذه الكائنات تمثل في التصوف ما يصعب التعبير عنه بالكلمات: الزهد، الرحمة، والأنفة، وهي دعوة دائمة للمحبة واللين في زمن يزداد فيه القسوة.
القطط، إذن، ليست فقط "هرة" عابرة، بل مرشدة روحية ونموذجًا لحياة متزنة تضع الرحمة في قلب السلوك الإنساني، كما علّمتنا مشايخ الطريق.