هل كان سيدنا الخضر نبيًا أم وليًا صالحًا ؟ العلماء يوضحون

في واحدة من أكثر القصص القرآنية إثارة للجدل، يظل السؤال مطروحًا: هل كان الخضر نبيًا أم وليًا صالحًا؟ القصة التي وردت في سورة الكهف، والتي جمعت بين نبي الله موسى عليه السلام والخضر، تفتح باب التأمل والاجتهاد في فهم طبيعة هذا الرجل الذي وصفه الله بأنه “آتاه رحمة من عنده وعلّمه من لدنه علمًا”.
القصة كما جاءت في القرآن
يروي القرآن الكريم أن نبي الله موسى عليه السلام قال يومًا: “لا أعلم أحدًا أعلم مني”، فأتاه الوحي بأن هناك عبدًا صالحًا في مجمع البحرين أعلم منه، فشدّ الرحال للقائه. وهناك التقى موسى بالخضر، وطلب منه أن يتبعه ويتعلّم منه، لكن الخضر اشترط عليه الصبر وعدم السؤال حتى يحدث الخضر أمرًا. وخلال الرحلة، وقعت ثلاثة مواقف أثارت تساؤلات موسى، كان أبرزها خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار، ليتبين في النهاية أن كل هذه الأفعال كانت تنفيذًا لأمر إلهي، بعلمٍ خاص أُوتيَه الخضر.
الخلاف بين العلماء
على مر العصور، انقسم العلماء حول طبيعة الخضر، فذهب جمهور كبير من علماء التفسير، من بينهم الطبري والقرطبي والرازي، إلى أنه نبي، مستندين إلى قوله تعالى في ختام القصة: “وما فعلته عن أمري”، أي أن ما فعله لم يكن تصرفًا شخصيًا، بل بوحي من الله تعالى، وهو دليل صريح – كما يرون – على النبوة، إذ لا يتلقى الوحي إلا نبي.
أما الفريق الآخر، فرأى أن الخضر وليٌّ صالح، وأنه أوتي علمًا خاصًا من الله دون أن يكون نبيًا. واستند أصحاب هذا الرأي إلى أن موسى هو النبي المبعوث، وأن الله لم يرسل الخضر للناس، بل جعله عبدًا صالحًا بعلم لدني، وأن الله قد يكرم بعض عباده الصالحين بعلم غيبي لحكمة، دون أن يكونوا أنبياء، كما في حالات الكشف والإلهام.
رأي الصوفية وأهل المعرفة
الصوفية والعارفون بالله كانت لهم مكانة خاصة للخضر، حيث يرون فيه رمزًا للمعرفة الباطنية والسرّ الإلهي. وتوسعت الروايات عندهم لتؤكد أن الخضر لا يزال حيًا، يلتقي بالأولياء، ويرشد السالكين. ورغم أن هذه الرؤية لا تجد سندًا شرعيًا قويًا عند المحدثين، إلا أنها لعبت دورًا روحيًا كبيرًا في ثقافة التصوف الإسلامي
قصة سيدنا موسى مع الخضر كما وردت في القرآن الكريم
جاءت قصة لقاء النبي موسى بالخضر في سورة الكهف، في الآيات من 60 إلى 82، وهي قصة مليئة بالدروس والعِبَر، تدور حول طلب العلم، وحكمة الله التي قد لا تُدرك بالعقل الظاهري، وأهمية الصبر على ما لا نعلم.
بداية الرحلة
بدأت القصة حين قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل إنه لا يوجد من هو أعلم منه، فأوحى الله إليه أن هناك عبدًا صالحًا في مجمع البحرين أوتي علمًا خاصًا لا يعلمه موسى. فقرر موسى أن يذهب في رحلة طويلة للقاء هذا العبد الصالح، ورافقه فتاه “يوشع بن نون”. قال الله تعالى:
“وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا” (الكهف: 60).
علامة اللقاء: فقدان الحوت
كان معهما حوتٌ مملّح (أي سمكة)، وأُخبر موسى أن علامة المكان الذي سيلتقي فيه الخضر هو أن الحوت سيُبعث حيًا ويغادر. وبينما كان موسى وفتاه يستريحان عند صخرة، تسلل الحوت إلى البحر بطريقة عجيبة. نسي الفتى أن يُخبر موسى، ولما تذكّر قال له:
“أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ”.
فرجعا إلى مكان الصخرة، فوجد موسى الرجل الذي يبحث عنه: الخضر.
اللقاء والاتفاق
عندما التقى موسى بالخضر، طلب منه أن يصحبه ليتعلم منه مما علّمه الله، لكن الخضر قال له إنه لن يستطيع معه صبرًا، لأن أفعاله لا تُفهم بالعقل الظاهري، وإنما هي بوحي أو علم خاص. قال له:
“فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا” (الكهف: 70).
الأحداث الثلاثة
خلال الرحلة، وقعت ثلاثة مواقف:
1. خرق السفينة
استقلّا سفينة مع بعض المساكين الذين لا يملكون غيرها، فإذا بالخضر يخرقها، أي يُحدِث فيها عيبًا. تعجّب موسى وقال:
“أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟”
فذكّره الخضر بالعهد بعدم السؤال.
2. قتل الغلام
لقي الخضر غلامًا فقتله، فاعترض موسى أشد الاعتراض، لأن قتل النفس بغير حق لا يُقبل. فقال له الخضر:
“أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟”
3. بناء الجدار
وصلا إلى قرية رفض أهلها أن يضيفوهما، لكن الخضر رأى فيها جدارًا يكاد يسقط، فأقامه. فاستغرب موسى، وسأله:
“لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا”.
التفسير والوداع
بعد هذه المخالفة الثالثة، قال له الخضر: هذا فراق بيني وبينك، وسأخبرك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا.
• السفينة: كانت لمساكين يعملون في البحر، وكان ملكٌ ظالم يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا، فأراد الخضر أن يعيبها كي لا يأخذها الملك.
• الغلام: كان أبواه مؤمنين، وكان الغلام سيُرهقهم طغيانًا وكفرًا، فأراد الله أن يبدلهما بخيرٍ منه.
• الجدار: كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنزٌ لهما، وكان أبوهما صالحًا، فأراد الله أن يبلغ الغلامان أشدهما ويستخرجا كنزهما.
قال الخضر في النهاية:
“وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا”