عاجل

رحلة داخل ورشة تنجيد كراسي تكشف أسرار المهنة الدمياطية

من داخل أحدي الورش
من داخل أحدي الورش

في قلب مدينة دمياط، حيث تتنفس المهن الحرفية من كل ركن ، كان لنا لقاء مميز داخل إحدى ورش التنجيد ، تلك المهنة التي لطالما كانت جزءًا أصيلًا من هوية المدينة.

 التنجيد ليس مجرد حشو أقمشة أو تثبيت قطع خشب ، بل هو فن له أصوله وتاريخه، يتوارثه الأبناء عن الآباء ، ويشكل مصدر رزق وحياة لكثيرين.

داخل الورشة ، تفوح رائحة الخشب الخام والمسامير والزيت، وتتداخل أصوات المطرقة مع حركة الماكينات، مشهدٌ مألوف لمن اعتاد هذه الأجواء، ومثير للدهشة لمن يراها لأول مرة. 

كان معنا في الزيارة محمد، أحد أقدم المشتغلين بهذه الحرفة ، الذي استقبلنا بابتسامة هادئة ويدين متعبتين لكنهما لا تتوقفان عن العمل ،  بدأ الحديث وهو منشغل بتركيب شريط قماشي على أحد الكراسي قائلاً: "التنجيد مش شغل وبس، دي حكاية طويلة من الصبر والدقة كل قطعة بنشتغل عليها بتاخد من عمرنا شويّة".

إلى جانبه قال وليد، شاب ثلاثيني ، إنه بدأ العمل في التنجيد منذ كان في الخامسة عشرة من عمره. يرى أن المهنة تطورت كثيرًا عن السابق، خاصة في الأدوات المستخدمة، لكنه لا ينكر أن الأساس لا يزال كما هو ، تحدث عن مراحل التنجيد بشغف واضح، مؤكدًا أن كل كرسي يمر بخطوات محددة تبدأ من الإطار الخشبي وتنتهي بالشكل النهائي الذي يراه الزبون.

رحلة داخل ورشة تنجيد كراسي تكشف أسرار المهنة الدمياطية

 

في البداية، يتم تجهيز "الهيكل الخشبي" أو ما يُعرف بالفرمة ، وهو القاعدة التي تُبنى عليها كل تفاصيل الكرسي ، في الغالب ، يأتي الحرفي بالكرسي القديم في حالة تلف أو يرغب العميل في تجديده، فيتم التأكد من سلامة الخشب أو استبداله إذا كان مكسورًا أو ضعيفًا ، بعد ذلك تأتي مرحلة "الشريط" الذي يتم شده بإحكام على قاعدة الكرسي ليكون دعامة قوية لما سيعلوه من طبقات.

بعد الشريط ، تبدأ مرحلة تركيب الزنبرك، وهي عملية دقيقة تحتاج إلى مهارة لضبط المسافات وضمان الثبات ، ثم يُوضع فوقها طبقة من الخيش، يليها طبقة من القطن أو الإسفنج، حسب طلب الزبون وميزانية العمل. كل مادة تُستخدم هنا لها تأثير على الراحة والشكل النهائي ، وبعد ذلك تبدأ مرحلة القص والضبط، حيث يتم تقطيع القماش المطلوب لتغليف الكرسي بدقة شديدة ، لتتناسب كل قطعة مع مقاساتها.

من جانبة أشار محمد ، إلى أن أهم ما يميز الحرفي الجيد هو لمسته الخاصة ، فهو لا يكتفي بتنفيذ طلب الزبون، بل يضيف من فنه وخبرته ما يجعل القطعة مختلفة، وربما أجمل مما تخيل صاحبها ، "أحيانًا الزبون بييجي بصورة من الإنترنت وعايز حاجة شبهها، وإحنا بنعملها له، لكن بنضبطها على طريقتنا. الشطارة هنا مش بس في التنفيذ، لكن في تحسين الفكرة كمان".

في أثناء الحديث، توقف وليد عن العمل قليلًا ليشير إلى أن التنجيد تطور أيضًا في نوعيات الأقمشة والإكسسوارات ، فهناك أقمشة مقاومة للبقع ، وأخرى مضادة للحريق ، وأنواع كثيرة مستوردة تضيف لمسة من الفخامة على الكرسي ، لكنه يوضح أن بعض الزبائن لا تزال تفضل الأقمشة التقليدية، خاصة المنسوجات الدمياطي المعروفة بجودتها وألوانها المتنوعة.

رغم كل هذا الفن والدقة ، لا تخلو المهنة من صعوبات ، يشكو محمد من ارتفاع أسعار الخامات، ويقول إن تكلفة الإسفنج والخشب والقماش زادت بشكل كبير، ما يضع الحرفي أمام خيارين كلاهما صعب: إما تقليل هامش الربح، أو رفع السعر على الزبون، وهو ما لا يتقبله الجميع ، كذلك أشار إلى أن بعض الزبائن لا يقدّرون المجهود المبذول، ويقارنون بين العمل اليدوي والمنتجات الجاهزة دون فهم الفارق الكبير في الجودة.

لكن رغم التحديات، تبقى الورشة مزدحمة بالعمل، والطلبات لا تتوقف، خاصة مع مواسم الزواج أو تجديد المنازل ، العمل هنا ليس وظيفة بل نمط حياة، يبدأ منذ الصباح الباكر ولا ينتهي إلا عند غروب الشمس، يتخلله شاي تقليدي وأحاديث عن الزبائن والأسعار وأحوال السوق.

وأضاف وليد “إحنا ورثنا الشغلانة دي من أهلنا، وهانعلمها لولادنا كمان، لأنها مش بس مصدر دخل، دي فخر لينا ولدمياط كلها”، كانت كلماته تلخص بصدق قيمة هذه المهنة، التي رغم بساطتها في ظاهرها، تحمل في باطنها فنًا، صبرًا، وعراقة لا تنضب.

تم نسخ الرابط