كريستيانو الصامت.. محمد محمود نطق بالإنجاز من بنها إلى ملاعب أوروبا

في قرية الشموت التابعة لمدينة بنها بمحافظة القليوبية، ولد حلمٌ كبير في جسدٍ صغير. هناك، حيث الأمل يزاحم الواقع، نشأ الطفل محمد محمود عبد الرحيم، فاقدًا للسمع، لكنه ممتلئٌ بالحياة.
لم يكن النطق سلاحه، بل قدماه، ولم تكن الكلمات لغته، بل مهاراته في كرة القدم، التي صنعت منه أسطورة حية في منتخب مصر للصم والبكم.
محمد، الذي يُعرف بين أهالي قريته باسم "كريستيانو المصري"، أول لاعب من فئة الصم والبكم يحترف في الدوري الإسباني، ويحقق ألقابًا أوروبية، ويتحول إلى رمز للأمل والتحدي.
■ البداية من التراب.. والموهبة لا تصمت
منذ صغره، كان محمد يطارد الكرة في الشوارع الترابية بقريته، يُقلّد نجوم أوروبا أمام شاشة التلفاز بلا صوت، لكنه يحفظ الحركات ويحاكيها بدقة. التحق بنادي السلام ببنها، ولفت الأنظار سريعًا بلمساته الفنية، حتى استُدعي إلى منتخب مصر للصم والبكم، وهناك بدأ الفصل الحقيقي من الحكاية.
يقول محمد بلغة الإشارة، وترجمها شقيقه عبد الرحيم بكلمات مرتجفة:
"كنت أحلم أن ألعب لأجل مصر، أن أرفع علم بلدي وأنا مختلف.. لم أسمع الهتاف يومًا، لكنني شعرت به في قلبي".
■ شقيقه المترجم.. صوت محمد في الحياة والملعب
لم يكن محمد وحده في الرحلة، فقد كان إلى جواره دائمًا شقيقه عبد الرحيم محمود، الذي تولى مسؤولية ترجمة الإشارات إلى كلمات، والأحلام إلى خطوات.
يقول عبد الرحيم:
"محمد لا يملك أذنًا تسمع، لكنه يملك قلبًا لا يتوقف عن النبض بالحلم.. الإعاقة الحقيقية ليست في الجسد، بل في من يعتقد أن الحلم محال".
"كان يشاهد المباريات الأوروبية، ويقلد كريستيانو رونالدو.. كنا نضحك وقتها، لكننا لم نكن نعلم أن محمد سيكون نسخة مصرية منه، يحترف في أوروبا ويكتب تاريخًا من ذهب".
■ من منتخب مصر إلى الدوري الإسباني.. إنجازات ناطقة بالصمت
لأكثر من 13 عامًا، ارتدى محمد قميص المنتخب الوطني للصم، وقاده للمشاركة في بطولتين لكأس العالم، وعدد من البطولات العربية والأفريقية، حتى تُوّج الفريق بالمركز الثاني على مستوى العالم، وأصبح من أقوى منتخبات القارة.
لكن الإنجاز الأكبر كان عندما تلقى محمد عرضًا من أحد أندية الدوري الإسباني، حيث انضم إلى نادي ديبورتيفو لاكورونيا، ثم إلى فريق هويلفا الإسباني، وحقق معهما بطولات على مستوى الدوري المحلي وأوروبا.
يقول محمد:
"عندما دخلت ملعبًا في إسبانيا لأول مرة، لم أفهم اللغة، لكنني فهمت الكرة.. هناك شعرت أنني مثل أي لاعب في العالم، بل إنني أفضل، لأنني وصلت رغم الصمت".
■ شهادات من الجيران والأصدقاء
في شوارع قريته، لا يزال الأهالي يروون حكايات محمد بفخر، ويستعيدون ذكريات لعبه بينهم.
يقول الحاج رجب عبد العليم، أحد جيرانه:
"كان طفلًا مختلفًا.. صامت لكنه حاضر دائمًا. لم يكن يرد على كلامنا، لكنه كان يرد على الكرة بفن ومهارة لا تتكرر".
ويضيف صديقه أحمد رضا:
"كان كلما يشاهد مباريات الدوري الإنجليزي والإسباني، يقلد اللاعبين، وكان يحفظ أهدافهم ويعيدها بنفس الطريقة.. كنا نضحك، لكننا كنا نؤمن أنه مختلف فعلًا".
وتقول جارته الحاجة أم مصطفى:
"محمد رفع اسم بلدنا.. كل القرية فخورة بيه.. ربنا يحميه ويفتح له أبواب الخير.. هو مشرفنا كلنا".
■ رسالة إلى الدولة.. ومطالب من القلب
رغم ما حققه محمد محمود من إنجازات، إلا أن واقع منتخبات الصم والبكم لا يزال مهمشًا، لا تحظى بدعم كافٍ، ولا باهتمام إعلامي، ولا حتى بموارد تدريبية تليق بما يقدمه هؤلاء الأبطال.
يقول محمد، عبر شقيقه:
"نحن لا نطلب المستحيل.. نريد فقط دعمًا من وزارة الشباب والرياضة، نريد ملاعب جيدة، معسكرات منظمة، واهتمام إعلامي.. نحن نمثل مصر، ونرفع علمها بين العالم، فلماذا لا يسمعنا أحد؟".
■ ختامًا..
قصة محمد محمود ليست مجرد حكاية لاعب من ذوي الهمم، بل قصة إصرار على الحياة، ورسالة صامتة لكنها مدوية تقول إن الإنجاز لا يحتاج صوتًا، بل إرادة. من قلب القليوبية إلى ملاعب أوروبا، أثبت محمد أن الصمت لا يمنع التألق، وأن النجومية لا تحتاج إلى جمهور، بل إلى عزيمة، وقدم تعرف طريقها إلى المرمى.