«إمياي».. قرية لا تعرف البطالة وتحوّل جريد النخيل إلى مصدر للرزق والحياة

في عمق دلتا مصر، وتحديدًا على أرض قرية إمياي التابعة لمركز طوخ بمحافظة القليوبية ، تنبض الحياة بإيقاع مختلف ، لا مكان هنا للفراغ أو الكسل ، فالأيدي لا تتوقف عن العمل، والورش تنبض بالحركة من طلوع الشمس حتى مغيبها ، الكبار والصغار، الرجال والنساء ، جميعهم على قلب مهنة واحدة: صناعة الجريد.
قرية لا تعرف البطالة وتحوّل جريد النخيل إلى مصدر للرزق والحياة
هنا، لا تُقاس الثروة بما تملكه من مال، بل بما تصنعه من جهد ، أكثر من 500 ورشة يعمل بها آلاف من أبناء القرية ، حولوا جريد النخيل ، الذي قد يراه البعض مجرد مخلفات زراعية ، إلى أقفاص تنقل خيرات الأرض ، وكراسي وأطقم أثاث تتزين بها البيوت والمقاهي، ومصدر رزق لعائلات بأكملها.
أيدٍ تتقن الصناعة.. وقلوب تنتظر الاعتراف
يقول أحد كبار الحرفيين في القرية:
"منذ أن كنت طفلًا، تعلّمت كيف أُلين الجريد وأشكّله بيدي، واليوم أعلم أولادي وأحفادي. نحن لا نعرف البطالة.. العمل هو تراثنا وقوت يومنا".
هذه المهنة التي ورثها أهل إمياي أبًا عن جد، لم تكن سهلة، فهي تتطلب مهارة وصبرًا طويلًا، لكنها كانت دائمًا الحصن الذي احتمت به القرية في وجه الفقر والتهميش. ورغم ذلك، يشعر أهل المهنة أنهم خارج حسابات الدولة، فلا تأمين صحي يغطي إصاباتهم، ولا نقابة تحمي حقوقهم، ولا دعم يساعدهم على تطوير أدواتهم.
بين الجريد والبلاستيك.. معركة غير متكافئة
في أحد أركان القرية ، يجلس شاب في العشرينات بجوار والده يصنعان قفصًا من الجريد، ويشرح الفارق بينه وبين الأقفاص البلاستيكية قائلًا: "الجريد يحتفظ ببرودة الثمار ويحافظ عليها خلال النقل، عكس البلاستيك الذي يتلف المحاصيل بسرعة.. لكن تكلفة إنتاج الجريد أعلى، والمنافسة شرسة".
تواجه الصناعة اليوم تحديات كبيرة، أبرزها نقص الجريد بسبب قلة النخيل، وزيادة الاعتماد على البلاستيك الأرخص، ما يهدد مستقبل مئات الورش بالإغلاق، ويهدد معيشة مئات الأسر.
النساء أيضًا على خط الإنتاج
ليست صناعة الجريد حكرًا على الرجال، ففي كثير من المنازل تشارك النساء في تجهيز الخامات وربط الأقفاص وتعبئة الطلبات. تقول إحدى السيدات:
"نعمل مع أزواجنا وأبنائنا.. دخلنا من هذه المهنة يكفينا ويغنينا عن السؤال، لكننا بحاجة لمن يساندنا إذا مرضنا أو تعطلت الورشة".
ظهير اقتصادي ومهنة بلا دعم
تحولت المهنة إلى ظهر اقتصادي حقيقي للقرية، لكنها ما زالت تبحث عن اعتراف رسمي. فالعامل الذي يُصاب بجرح أو مرض بسبب المهنة لا يجد من يعالجه، وصاحب الورشة الذي يريد تحديث معداته لا يجد قروضًا مناسبة أو تدريبًا متطورًا.
ويطالب الأهالي بتوفير قروض منخفضة الفائدة، وشمولهم في منظومة التأمين الصحي والاجتماعي، وإنشاء نقابة مهنية تحافظ على حقوقهم، أسوة بالقطاعات الأخرى.
زيارات رسمية.. وأمل في الاستجابة
زار محافظ القليوبية القرية مؤخرًا، واستمع لشكاوى الصناع، ووعد بدراسة مشكلاتهم. كما تم توجيه قافلة طبية بالتعاون مع كلية الطب ببنها لتقديم خدمات صحية للعمال.
وكانت نائبة المحافظ قد تفقدت الورش ضمن جولات متابعة المشروعات الصغيرة، في إطار جهود الدولة لدعم الصناعات متناهية الصغر باعتبارها محركًا أساسيًا للاقتصاد المحلي.
إمياي.. حين تتحول الحرفة إلى حياة
ما يحدث في إمياي ليس مجرد حرفة، بل قصة قرية صنعت لنفسها مستقبلًا من الجريد، ورفضت أن تكون على هامش الحياة. قرية علمت أبناءها أن الكرامة في العمل، وأن الجهد الصادق لا بد أن يجد من يقدّره.
إمياي تستحق أن تكون نموذجًا يُحتذى به في التنمية الريفية، لكن هذا النموذج يوشك أن يتلاشى إن لم تمتد إليه يد الدعم والرعاية. فهؤلاء البسطاء لا يطلبون الكثير، فقط يريدون أن تُرى ورشهم، وأن تُسمع أصواتهم، وأن تُعامل مهنتهم بما تستحقه من احترام واهتمام.