كانت الهجرة النبوية المشرفة بدايةً لمرحلة مهمة من تاريخ الإسلام ودعوته، وبدايةَ تأسيس دولة إسلامية قائمة على العدل والتآخي والمواطنة الكاملة بين أطياف المجتمع كافة؛ مما أنشأ دولة متكاملة الأركان متماسكة البناء يتعاون أفرادها جميعًا في بنائها ورخائها ويتكاتفون معًا في خدمة دعوة الإسلام، لتنطلق من هذه الدولة الفتوحات التي نشرت الإسلام في ربوع الأرض.
وللهجرة مفهوم خاص عند علماء الأمة الإسلامية متمثل في الهجرة من مكان لآخر فرارًا بالدين، ولها مفهوم عام يتوافق مع مقتضيات كل العصور وهو هجر الذنوب وكل ما نهى الله عنه، وذلك استنادًا إلى الحديث النبوي الشريف الذي رواه الإمام البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال «المسلم من سلم المسلمون والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، أي ابتعد عن المعاصي والمنكرات وهجرها إلى الإحسان والتقوى. وثَم معنى آخر للهجرة ورد في حديث الإمام مسلم عن معقل بين يسار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال «العبادة في الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» ويقصد بها التمسك بالطاعات والعبادة والإلتزام بصحيح الدين في زمن الفتنة.
ورغم كل هذا، فإن جماعات التطرف والإرهاب أصرت على اختطاف مفهوم الهجرة - كغيره من المفاهيم الأخرى- وتطبيقه بعيدًا عن الواقع المعاصر، وليِّ عنقه حتى يحقق أغراضهم وتوجهاتهم المتطرفة، فظهرت جماعات متشددة وتكفيرية أغرت أتباعها بالهجرة من بلادهم إلى ما أسموه بدولة الخلافة المزعومة.
وقد خالف المتطرفون الفهم المستقيم لمعنى الهجرة، فتغافلوا عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عندما قال يوم فتح مكة «لا هجرة بعد الفتح ».وكان نتاج هذا الفهم المنحرف للجماعات المتطرفة لمفهوم الهجرة أن ظهرت جماعات متشددة حركية اعتبرت أن الهجرة فرض على أتباعها للخروج مما أسموه دولة الكفر إلى دولة الإسلام والجهاد من أجل نصرة الدين.
ومن تلك الجماعات جماعة «التكفير والهجرة» التي ظهرت سنة 1974م، وأسسها شكري مصطفى، لتكون أول جماعة تقوم عقيدتها على تكفير الحكام والمحكومين واعتزال المجتمع والهجرة إلى أماكن منعزلة لتنفيذ علميات إرهابية ضد الدولة التي يعتبرونها كافرة، وكانت أشهر عملية إرهابية قامت بتنفيذها جماعة «التكفير والهجرة» اغتيال الشيخ محمد الذهبي وزير الأوقاف المصري سنة 1977م وتوالت عملياتها الإرهابية بعد ذلك في مصر وغيرها من الدول.
وتتكون عقيدة هذا التنظيم الإرهابي -الذي انبثقت منه عده جماعات إرهابية أخرى واستمد أدبياته من أفكار سيد قطب- من جزأين؛ الأول اعتقادهم أن جميع البلدان الموجودة هي بلاد كافرة؛ كونَها تعتمد القوانين الوضعية ولا تطبق الحدود الشرعية وأنها لا تعادي «الغرب الكافر» على حد وصفهم، كما تعتبر كذلك المواطنين في هذه الدول كفارًا؛ لأنهم ارتضوا العيش فيها وارتضوا بحكامها وقوانينها الوضعية، وأن علماء هذه البلاد كفارًا لأنهم لم ينكروا على الحكام والمحكومين رضاهم بهذا الوضع، وأنه لا يجوز العمل في مؤسسات الدولة كونها كافرة، واعتزال المساجد التي وصفوها بـ "معابد الجاهلية" كونها موجودة في بلاد كفر عملًا بنصيحة مؤسس الجماعة شكري مصطفى الذي قال عند محاكمته إنه يعتقد كفر جميع المسلمين إلا جماعته، وقال "جماعتي هي الجماعة المسلمة الوحيدة على الأرض"، وأن من لم يدخلها أو خرج منها، "قتالهم أولى من أي قتال".
بل وحتى التعليم انعزلوا عنه، فكان أتباعها يتركون التعليم وفقًا لتعليمات أميرهم الذي قال "إن أمة الإسلام وهي خير أمة اخرجت للناس إنما هي أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وأنه يحرم تعليم الكتابة في الجماعة المسلمة إلا بقدر الحاجة العلمية الواقعية لما يتصل بالكتابة من حيث مصلحة تلك الجماعة، وأن تعلم الكتابة لذاته حرام".
أما الجزء الثاني من عقيدتهم فيتمثل في تحريف معنى «الهجرة»؛ إذ دعوا أتباعهم إلى اعتزال المجتمع وترك بلادهم إلى ما وصفوه بـ «دولة الإسلام» مثلما فعلت داعش في وقتنا المعاصر، وحرصوا على العيش في مناطق نائية والتدرب على تنفيذ عمليات إرهابية ضد ما يعتبرونها دولة الكفر. وكان نتاج كل هذا عزلة مكانية وشعورية عن المجتمع، والانسلاخ من الانتماء للوطن فيصبح القتل والتفجير أمرًا عاديًا ومستساغًا في نفوس هؤلاء المتطرفين، وهو ما كان.
استند أتباع هذه الجماعة المتطرفة ومثيلاتها في وجوب الهجرة إلى بعض النصوص الشرعية التي فسروها بفهمهم المنحرف متجاهلين فهم العلماء لها، وغاضين النظر عن القواعد والمنهج العلمي المتبع عند تفسير النصوص، فاستدلوا بقول الله تعالى في سورة النساء (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، ليقتطعوا الآية الكريمة من سياقها متجاهلين أسباب نزولها وتفسيرات العلماء الثقات لها على مر التاريخ الإسلامي ليأتوا بتفسيرات منحرفة تحقق أغراضهم وأيديولوجياتهم المتطرفة.
«الهجرة» مفهوم حرفته كثير من الجماعات المتطرفة، واستغلته أسوأ استغلال ليغرروا بالشباب المتحمس للهجرة إلى مناطق نفوذهم وحشدهم، ويخدعونهم بأنهم مهاجرون إلى دولة الإسلام والخلافة مثلما هاجر صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نُصرةً للدين، وهم لا يدرون أنهم يحاربون الدين ويسعون لهدمه وتشويهه لا نصرته.
في مواجهة هذا الانحراف، برز دور المؤسسات الدينية الكبرى، وعلى رأسها الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، اللتان قدّمتا جهودًا علمية وتوعوية كبيرة في تفنيد مفاهيم الجماعات المتطرفة وتصحيحها، ونشرتا مئات الإصدارات والبحوث والفتاوى لتوضيح المفاهيم المغلوطة، ومنها مفهوم الهجرة. فقد أكدت هذه المؤسسات أن الهجرة في عصرنا ليست بالضرورة انتقالًا مكانيًا، وإنما هي هجرة نحو الاستقامة، وهجر للمعصية، وثبات على الطاعة في زمن الاضطراب، وليست دعوة إلى العزلة أو التمرد أو تكفير المجتمعات.