نستهل عامًا هجريًّا جديدًا، وقد أشرقت شمسه على القلوب المؤمنة بنفحات الإيمان، والأمل والتفاؤل، وبشائر البداية المتجددة... فكل عام هجري يطل علينا، يحمل رسالة ربانية لكل مؤمن: لا تيأس، ولا تقنط،... وافتح صفحة جديدة مع الله، ومع نفسك، ومع الناس...
والله يبشرنا ويطمئننا على الدوام، قال تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل: 6)، ويقول جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 200)، ويقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
نفتتح العام الجديد، بعد سلسلة كبيرة من التحديات التي واجهت أمتنا، بقلوب متطلعة إلى نصر الله، وإلى رحمة الله، آخذة بالأسباب، متشبثة بحبال الأمل، مستبشرة بعهد جديد مع الله.
.إنها لحظة مراجعة وبداية، نتخلص فيها من أثقالنا وأدراننا، ونغسل بها أحزاننا، ونتجاوز عثراتنا، ونستجمع قوانا، ونبدأ من جديد بعزيمة راسخة، وأمل كبير لا ينطفئ، مستلهمين من هجرة سيدنا محمد (ﷺ) كيف نُحوِّل الأزمات والمحن إلى منح، والعتمات إلى نورٍ يهدي ويضيء.
فالرسول الكريم (ﷺ) خرج من ضيق مكة، وتآمر قريش، وظلمة الليل، إلى سَعة المدينة، ونور التمكين، وبناء الدولة، وإقامة حضارة الخير والسلام.
خرج وهو يثق تماما في وعد الله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).
ويوقن بسننه في خَلقه: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (اشرح: 5-6).
.. لقد كانت الهجرة:
• عنوانًا دائمًا للتجدد والتغيير.
• وانطلاقةً حضارية نحو مستقبلٍ أفضل يُبنى بالإيمان، والصبر، والعمل، والتخطيط، والتوكل على الله
..فعن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال:كنتُ خلْفَ النَّبيِّ (ﷺ) يومًا فقال: (يا غلامُ إني أُعلِّمُك كلماتٍ: احفَظِ اللهَ يَحفظْكَ احفَظِ اللهَ تَجدْهُ تُجاهَك ، إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ، وإذا استعنْتَ فاستعِنْ باللهِ، واعلَمْ: أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمَعَتْ على أنْ يَنْفَعوكَ بشَيءٍ، لم يَنْفَعوكَ إلَّا بشَيءٍ قد كتبَهُ اللهُ لك، وإنِ اجْتمعوا على أنْ يَضُروكَ بشَيءٍ، لم يَضُروكَ إلَّا بشَيءٍ قد كتبَهُ اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ، وجَفَّتِ الصُّحُفُ). وفي روايَةٍ: (احفَظِ اللهَ تَجدْهُ أمامَكَ، تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفْكَ في الشِّدَّةِ، واعلَمْ أنَّ ما أخْطأَكَ لم يكنْ ليُصيبَكَ، وما أصابكَ لم يكنْ لِيُخْطِئَكَ ، واعلَمْ أنَّ النصرَ مع الصبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا) (أخرجه الترمذي بنحوه، وأحمد باختلاف يسير – إسناده صحيح).
فيا أحباب رسول الله (ﷺ):
• هيا بنا نغتنم نفحات هذه البداية
• ونلحق بركب المتوكلين على الله العاملين بمنهجه، الآخذين بالأسباب، فنهاجر من:
o التقصير إلى التوبة
o ومن الغفلة إلى الذكر
o ومن العجز إلى الجد
o ومن الظلمة إلى النور...
متسلحين بقول الحق جل وعلا:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
وما أجمل أن نبدأ عامًا جديدًا بقلبٍ جديد، ونيةٍ خالصة، وعزمٍ صادق، على طريق سيدنا محمد (ﷺ)، الذي هاجر من أجل:
الاستجابة لأمر الله
ونشر دعوة الحق في كل مكان.
وبناء الإنسان.
وصناعة الحضارة.
وتحقيق التعايش...
فكانت الهجرة بداية حياة، وميلاد أمة، وعنوانًا خالدًا للأمل المتجدد في وجه الظلام...
الهجرة ليست مجرد انتقالٍ من دارٍ إلى دار، بل هي فجر جديد:
الهجرة النبوية ليست مجرد انتقالٍ من دارٍ إلى دار، أو رحلةٍ من مكانٍ إلى آخر، بل هي تحوُّلٌ محوري جذريّ، وفجرٌ جديد، أشرق بالأنوار على البشرية، ومحطةٌ عظيمةٌ تجلَّت فيها معاني التضحية والفداء، والصبر والولاء، والإخلاص لله رب العالمين.
إنها مدرسة تربوية دائمة العطاء والإمداد، نستعيد من خلالها أعظم صور الرجولة، والشهامة، والتضحيات، ونستمد منها العبر، والدروس في الإيمان، والتوكل، والتخطيط، والعمل، والتغيير، وبناء الإنسان والمجتمع، ونستعد للبذل والعطاء...
لقد كانت الهجرةُ امتحانًا عظيمًا للإخلاصِ والتضحية والتخطيط، ومشهدًا خالدًا لمعاني الوفاءِ والصبر، ومَعلَمًا فارقًا في تاريخ الرسالات، حيث تلاقت فيها الإرادة بالإدارة، ومضى فيها النبي (ﷺ) يُرسِّخ مبادئ النور وسط عتمات الجاهلية، ويغرسُ بذورَ الخير في أرضٍ تهيأت لتكون مهدًا لحضارةِ الإسلام الخالدة، ومنارة للنور الذي سيعم الآفاق...
الهجرة النبوية: وفن صناعة المستقبل
وتدارس قضية الهجرة النبوية الشريفة، يبعث فينا قوة نورانية عظيمة، في طليعتها استقراء معاني حسن التوكل على الله تعالى واستلهامها في شتى تفاصيل حياتنا ودقائقها، وعلو الهمة، وصدق الصبر، وصبر الصدق، والثبات على المبدأ، والشجاعة والإقدام، والتخطيط والتنظيم وترتيب الأدوار، وديمومة الوصال مع الله...
ولما كانت الهجرة الشريفة ينبوع عطاء وعمل وأمل، ولا يتناهى أثرها؛ بل كلما مرت الأعوام والسنون، وتباعدت التواريخ بيننا وبينها، زاد شذاها، وازددنا شوقًا وحبَّا وتعلمًا وتعلقًا وارتباطًا بقدوتنا صاحب الهجرة الشريفة سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكشف الله وجل لنا كثيرًا من دروسها ومعانيها ومقاصدها التي تفيدنا في هذه الحياة، فإننا نرمي من الحديث عنها وفي ذكراها كل عام: استجلاء مزيد من معانيها، ومقاصدها، وفلسفتها، ودروسها البانية للإنسان والأوطان، باعتبارها منهاج حياة، وخطة عمل استراتيجية طويلة الأمد...
وإن الناظر بعمق، والمدقق فيما حدث في قضية الهجرة (جملة وتفصيلا، قَبلا وأثناء وبَعدًا) سيرى أن الهجرة برمتها هي نموذج مصغر لواقع الحياة، على اتساعها وامتدادها، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، طولا وعرضًا وعمقًا؛ بل هي نموذج مصغر للصراع والتدافع المستمر بين الحق والباطل.
وتذكرنا دوما بأن الله هو الحق، ومع الحق، وناصر الحق على الدوام... تُعَلِّمُنا حسن التوكل على الله، والأخذ الكامل بالأسباب، والصدق والصبر والثبات والتحمل؛ لمواجهة صعوبات الحياة وتحدياتها... وتُعَلِّمُنا نسقًا مبدعًا في التدبير والتفكير خارج الصندوق، وتُعَلِّمُنا أنماطًا متجددة في التخطيط الإستراتيجي، وأن الأزمات تُدار بالقدرات والكفاءات لا بالمعجزات، وتُعَلِّمُنا دروسًا أخرى كثيرة وعظيمة ما أحوجنا إليها في هذه الحياة...!.
وفي هذا المقام نؤكد أنَّ تنمية علاقة الشخص بربه أساس النجاح والفلاح والصلاح والنصر المبين، فعلى الرغم من قلة عدد المسلمين وقتذاك، والأخطار التي كانت تحيط بهم من كل جانب، وتربص جموع المشركين بهم...إلخ؛ فإن الهجرة النبوية الشريفة قد نجحت نجاحًا منقطع النظير، وأصبحت أنموذجًا للتفكير والتخطيط والتنفيذ العلمي الدقيق.