عاجل

الهجرة النبوية ليست حدثًا تاريخيًا فحسب، بل هي نقطة تحوّل كبرى في مسار الرسالة الإسلامية، جمعت بين الإيمان العميق، والتخطيط المحكم، والتوكل الصادق. ومن خلالها، وُضعت اللبنات الأولى لبناء مجتمع العدل والرحمة والسلام. إنها مدرسة متكاملة تُلهم الأفراد والمجتمعات حتى اليوم، وتُقدِّم دروسًا عملية تربط الماضي بالحاضر، وتفتح آفاق المستقبل.

أولًا: التخطيط والأخذ بالأسباب

رغم أن النبي ﷺ كان في ذروة التوكل على الله، فإنه خطط للهجرة بكل تفاصيلها: اختار الرفيق، وحدد الطريق، واستأمن من يثق به، واتخذ من غار ثور ملجأً. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “كان من تمام توكله ﷺ أخذه بالأسباب، لا سيما في مواضع الخطر”. وهذا يعلمنا أن الإيمان لا ينافي التخطيط، وأن النجاح في الحياة يتطلب الجمع بين الروح والتدبير.

الحاضر: في عالمنا اليوم، نحتاج إلى التخطيط الواعي في مشاريعنا وأعمالنا كما فعل النبي ﷺ في أعظم مشروع للبشرية: بناء دولة الإسلام.

ثانيًا: التضحية من أجل العقيدة

ترك النبي ﷺ وطنه، وترك الصحابة أموالهم ومنازلهم وأحبّتهم من أجل نصرة الدين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنها كانت أول هجرة في سبيل الله." هذه التضحيات لم تكن عبثًا، بل هي التي صنعت الجيل الذي غيّر وجه التاريخ.

الحاضر: كم من شباب اليوم مستعد لترك العادات الضارة، أو مواجهة التحديات الأخلاقية، أو مغادرة بيئات الفساد حفاظًا على دينه؟ الهجرة الحقيقية اليوم هي هجرة النفس عن الذنوب، وهجرة القلوب إلى الله.

ثالثًا: بناء مجتمع على أسس الأخوة

حين وصل النبي ﷺ إلى المدينة، لم يبدأ ببناء قصر، بل أسّس المسجد، وأقام عقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار. قال المفكر مالك بن نبي: "كانت الهجرة بداية التحول من الفردية إلى المجتمع، ومن المظلومية إلى الرسالة."
لقد قدم الإسلام نموذجًا فريدًا لوحدة المجتمع رغم اختلاف الأعراق والأنساب.

الحاضر: عالمنا المعاصر يمزقه التفرّق والطائفية، والهجرة النبوية تذكّرنا بأهمية بناء مجتمع متماسك، يتجاوز الفوارق، وينطلق من القيم العليا.

رابعًا: الثبات في مواجهة التحديات

الهجرة لم تكن نزهة، بل محفوفة بالمخاطر، لكنها كشفت عن ثبات النبي ﷺ وصبره، وصدق إيمانه. قال الله تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ [التوبة: 40]

الحاضر: ما أحوجنا إلى الثبات على المبادئ في زمن المتغيرات، إلى من يصمد أمام الإغراءات، ولا يبدّل دينه بدنيا زائلة.

خامسًا: الهجرة مستمرة بمعناها

قال الحسن البصري:"الهجرة لا تنقطع ما دام التوبة ممكنة، فالهجرة اليوم هي ترك ما حرم الله." فالهجرة ليست عبورًا جغرافيًا فقط، بل هي تحوّل داخلي مستمر.

الحاضر: كل مسلم مطالب بهجرة من الكسل إلى العمل، ومن الظلم إلى العدل، ومن السلبية إلى الإيجابية.

ختامًا: الهجرة النبوية ليست ذكرى نُحييها كل عام فحسب، بل هي مشروع حياة. فيها من الدروس ما يُبني به الإنسان، وتُنهض به الأمم. فعلينا أن نستحضرها بروح الفهم والتطبيق، لا بمجرد العاطفة والاحتفاء.

تم نسخ الرابط