تسليح الجيش المصري.. ضرورة وطنية ومشروع دولة لحمايتها

منذ اللحظة الأولى لتوليه مقاليد الحكم في 2014، لم يتعامل الرئيس عبد الفتاح السيسي مع ملف تسليح الجيش أو القوات المسلحة باعتباره فقط مكونًا دفاعيًا، بل كرؤية ممتدة لمفهوم الدولة الحديثة، دولة تمتلك أدوات الردع والسلام في آنٍ واحد. لم تكن سياسات التحديث العسكري مجرد تحرك تقني نحو شراء السلاح، بل كانت تصورًا استراتيجيًا قائمًا على إدراك حجم التحولات الإقليمية والدولية، وتقدير المخاطر المتسارعة من الإرهاب، وتفكك بعض الدول المحيطة، وتغير توازنات القوة في البحرين الأحمر والمتوسط.
بناء الجيش ليس موجهًا ضد أحد بل هو ضرورة وطنية لحماية مقدرات الشعب المصري
في خطاباته المتعددة، أكد الرئيس السيسي أن بناء الجيش ليس موجهًا ضد أحد، بل هو ضرورة وطنية لحماية مقدرات الشعب المصري، وللحفاظ على الاستقلال الاستراتيجي للدولة. وقد ظهرت هذه الرؤية بوضوح في تصريحاته الشهيرة: "مافيش حد يقدر يقرب من مصر.. لأن عندنا جيش"، وهو ما عكس المبدأ الذي تأسس عليه مشروعه في تحديث القوات المسلحة: بناء ردع شامل يحول دون أي تهديد خارجي أو داخلي.
خاضت مصر واحدة من أكبر عمليات تطوير وتسليح الجيش في تاريخها الحديث
خلال السنوات العشر الماضية، خاضت مصر واحدة من أكبر عمليات تطوير وتسليح الجيش في تاريخها الحديث، وهي عملية امتدت أفقيًا ورأسيًا، شملت المعدات والأفراد، القواعد والبنية التكنولوجية، السياسات والتحالفات. بدأ التحول من خلال تنويع مصادر التسليح، وهو قرار استراتيجي أنهى عقودًا من الارتهان شبه الكامل للسلاح الأمريكي، ففتحت القاهرة قنوات تسليح جديدة مع فرنسا وروسيا وألمانيا وكوريا الجنوبية، بل ووقعت صفقات متقدمة مع دول كبرى رغم ما تحمله من حساسية سياسية، في إشارة إلى استقلالية القرار المصري.
القوات البحرية المصرية واحدة من الأكثر تطورًا على المستوى الإقليمي
في قلب هذا التوجه، جاءت صفقة طائرات "رافال" الفرنسية، والتي كانت في وقتها أول دخول لطائرة غربية متطورة بهذا المستوى إلى المنطقة، تلاها حصول مصر على حاملتي مروحيات من طراز "ميسترال"، في سابقة جعلت من القوات البحرية المصرية واحدة من الأكثر تطورًا على المستوى الإقليمي، خصوصًا بعد تعزيزها بفرقاطات ثقيلة وغواصات ألمانية الصنع. وعلى جانب القوات الجوية، أعيد تشكيل السرب المصري بدمج طائرات "ميج 29" الروسية، وF-16 الأمريكية، ورافال الفرنسية، ومروحيات الأباتشي الأمريكية والكا-52 الروسية، مع اعتماد برامج تدريب مشترك ونقل تكنولوجيا.
التوسع في إنشاء القواعد العسكرية جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الردع
وقد كان التوسع في إنشاء القواعد العسكرية جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الردع ، فمن افتتاح قاعدة محمد نجيب في الساحل الشمالي، إلى قاعدة برنيس المطلة على البحر الأحمر، ثم قاعدة "3 يوليو" على المتوسط، بدا واضحًا أن الهدف المصري لا يقتصر على حماية الحدود فحسب، بل تأمين المحاور الاقتصادية الحيوية مثل قناة السويس، والموانئ التجارية، وحقول الغاز في شرق المتوسط.
لم تهمل الدولة تطوير العنصر البشري داخل الجيش
على التوازي، لم تهمل الدولة تطوير العنصر البشري داخل الجيش، فقد جرى تحديث نظم التعليم العسكري، وإدخال الذكاء الاصطناعي ومحاكاة القتال، وتعزيز برامج التدريب مع جيوش كبرى مثل الولايات المتحدة، وروسيا، وفرنسا، ودول الخليج واليونان. بل إن مصر أصبحت خلال سنوات قليلة مركزًا للمناورات متعددة الجنسيات، مثل "النجم الساطع" و"درع العرب"، وهو ما جعل منها شريكًا موثوقًا في معادلات الأمن الإقليمي.
واجه مشروع تسليح الجيش المصري حملة انتقادات حادة من جماعة الإخوان الإرهابية
ورغم كل هذه الإنجازات الملموسة، واجه مشروع تسليح الجيش المصري حملة انتقادات حادة من جماعة الإخوان الإرهابية والمنصات الإعلامية المرتبطة بها. ركزت تلك الحملات على التشكيك في أولويات الدولة، والتساؤل حول جدوى الإنفاق العسكري في ظل تحديات اقتصادية، وتصوير الأمر على أنه "عسكرة للبلاد". لكنها في واقع الأمر تجاهلت السياق الجيوسياسي الذي استدعى هذا التحديث العميق، كما تجاهلت أن مصر كانت ولا تزال محاطة ببيئة مشتعلة: فوضى في ليبيا، إرهاب في سيناء، توتر في سد النهضة، ونزاعات بحرية في شرق المتوسط.
وكان رد الرئيس واضحًا: "لو الشعب مش هيشوف جيشه قوي، مش هيحس إنه في أمان"، مؤكدًا أن قوة الجيش لم تكن أبدًا عبئًا على الاقتصاد، بل أحد أعمدة استقراره. بل إن السنوات الماضية أثبتت أن المؤسسة العسكرية لعبت أدوارًا محورية في دعم البنية التحتية، وتأمين الغذاء، وتنفيذ مشروعات تنموية كبرى، في ظل ظروف طارئة فرضتها الأزمات العالمية مثل كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية.
وفقًا لمؤشرات "غلوبال فاير باور" لعام 2024، تقدمت مصر إلى المرتبة 14 عالميًا في ترتيب أقوى جيوش العالم، والأولى في إفريقيا، والثالثة عربيًا، وهو ما يعكس فعالية برنامج التحديث المصري، وقدرته على تعزيز موقع مصر كفاعل رئيسي في أمن المنطقة.
ولا يمكن قراءة مشروع تسليح الجيش المصري بمعزل عن فلسفة الرئيس عبد الفتاح السيسي الأوسع في إدارة الدولة: بناء وطن قوي يحمي نفسه، لا ينتظر ضمانات خارجية، ولا يسمح لأعدائه بالتسلل من ضعف أو غفلة. وهنا يصبح الجيش ليس فقط خط الدفاع الأول، بل صمام الأمان الذي يحفظ تماسك الدولة، واستقلال القرار الوطني في زمن يموج بالفوضى والضغوط.