لم يكن التفجير الانتحاري الذي استهدف كنيسة القديس مار إلياس في حي الدويلعة شرق دمشق بسوريا مجرّد حادثة إرهابية جديدة تضاف إلى سجل النزيف السوري، بل كان مشهدًا صارخًا من مشاهد العبث باسم الدين، وتجسيدًا مأساويًا لفكر متطرف يرى أن حياة الآخر الديني لا تساوي شيئًا. دخل الإرهابي الذي ينتمي لتنظيم "سرايا أنصار السنة" المتطرف إلى الكنيسة، فتح النار على المصلين، ثم فجّر نفسه، ليخلّف وراءه أكثر من 22 قتيلًا و59 جريحًا، معظمهم من المدنيين الأبرياء.
لكن المأساة لا تبدأ من لحظة الضغط على زر التفجير، بل من لحظة زرع الفكرة التي جعلت من بيت عبادة هدفًا مشروعًا، ومن الأبرياء خصومًا. هذه الفكرة التي تقوم على التكفير، واستحلال الدماء، وشيطنة الآخر، لا تنتمي إلى جوهر الإسلام، بل إلى عقل مشوّه وفكر منحرف تُرك له المجال ليتفشى دون مواجهة جذرية.
إن استهداف الكنائس، وادعاء أن بُناتها أو مرتاديها حربيون كما يظن أهل التطرف والإرهاب، هو افتراء على الدين، ومخالفة لما أجمعت عليه المذاهب الإسلامية المعتبرة منذ صدر الإسلام. فقد أقرّ الإسلام حرية العقيدة، واحترام شعائر الآخرين، وأوصى بأهل الذمة خيرًا، ونهى عن ظلمهم أو ترويعهم أو الاعتداء على دور عبادتهم.
وقد كان من أبلغ من عبّر عن هذا الإمام الليث بن سعد، أحد كبار فقهاء مصر، الذي قال إن كنائس مصر قائمة، وإنها كانت تبنى في عهد المسلمين، وما هدم منها شيء قط، ولا مُنعت إقامة الصلوات فيها، وإنّما يُمنع الظلم لا العبادة. بل إن الخليفة عمر بن الخطاب، حين دخل القدس، رفض أن يُصلي في كنيسة القيامة حتى لا يتحجّج المسلمون بعده للاستيلاء عليها، ضاربًا أروع الأمثلة في احترام خصوصية الآخر الديني ومقدساته.
وإقرار الإسلام لأهل الكتاب على أديانهم وممارسة شعائرهم يقتضي إعادتها إذا انهدمت، والسماح ببنائها، وعلى ذلك جرى عمل المسلمين عبر تاريخهم وحضارتهم منذ العصور الأولى المفضَّلة وما تلاه من عصور.
فذكر أبو عمر الكندي في كتاب "الولاة والقضاة": "أن موسى بنَ عيسى واليَ مصر في عهد الخليفة هارون الرشيد أَذِن للنصارى فِي بُنْيان الكنائس التي هُدِمَتْ، فبُنيت كلُّها بمشورة الليث بْن سعد وعبد الله بْن لَهِيعة -وهما أعلم أهل مصر في زمنهما-، وقالا: "هُوَ من عِمارة البِلاد"، واحتجَّا بأن عامة الكنائس التي بِمصر لم تُبْنَ إلَّا فِي الْإِسْلَام فِي زمَن الصحابة والتابعين".
إن هذه القيم الكبرى في الإسلام – من حفظ الدماء إلى صون دور العبادة – لم تكن استثناءً في فقه المسلمين، بل أصلًا راسخًا. فقد قرّر الفقهاء في كتبهم أن الكنائس التي بنيت بإذن في بلاد الإسلام لا يجوز هدمها، ولا منع أهلها من ممارسة عباداتهم، وأنّ من آذى ذميًا فقد آذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد في الحديث الصحيح.
في المقابل، يقوم فكر الجماعات الإرهابية كداعش وغيرها على هدم هذه القيم، لا بنقاش علمي، بل بتأويلات مسمومة وتقطيع للنصوص وتغذية بالكراهية. يزعمون الجهاد وهم يقتلون الآمنين، يتحدثون عن البراء من الكفار وهم ينسفون الجسور بين البشر، ويستبيحون الكنائس بدعوى محاربة الشرك، وهم في الحقيقة يحاربون كل ما هو إنساني وحضاري وأخلاقي.
وهنا تبرز التجربة المصرية بوصفها نموذجًا يُحتذى في مواجهة الفكر المتطرف، ليس فقط من خلال المعالجة الأمنية، بل من خلال بناء رؤية فكرية ومؤسساتية شاملة. لقد أدركت مصر مبكرًا أن المعركة مع الإرهاب لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بالعلم، والحجة، وتجديد الخطاب الديني من داخله لا من خارجه. وكان الأزهر الشريف، المؤسسة الإسلامية الأعرق في العالم بقيادة فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، في صدارة هذه المواجهة، حاملًا لواء الوسطية، ومحافظًا على الاتزان العقلي والروحي للدين الإسلامي، في وجه موجات التكفير والتشدد والغلو، وعلى هذا النهج سارت مؤسسات الدولة الدينية كدار الإفتاء المصرية ووزارة الأوقاف ومجمع البحوث الإسلامية في مواجهتها للفكر المتطرف.
لقد رسّخ الأزهر الشريف، عبر علمائه ومناهجهُ الوسطية، مبدأ الاحترام الكامل لشركاء الوطن، وتأكيد أن علاقة المسلم بغيره تقوم على السلم والتعاون، لا على الصراع والعداء. ومنهجيته التعليمية، التي تمزج بين النقل والعقل، وبين التراث والانفتاح على الواقع، جعلته سدًا منيعًا أمام محاولات اختطاف الإسلام وتسييسه أو تحويله إلى أداة للقتل باسم العقيدة. وقد قدّم الأزهر الشريف في العقود الأخيرة، عبر وثائق المواطنة، ووثيقة الأخوة الإنسانية، والمواقف الراسخة لعلمائه الكبار، رؤية متكاملة تنقض كل الأسس الفكرية التي تبني عليها الجماعات الإرهابية مواقفها.
إن من يقف وراء تفجير كنيسة مار إلياس في سوريا ليس فقط شخصًا يحمل حزامًا ناسفًا، بل منظومة فكرية ضخمة زرعت فيه هذا التصور القاتل. وقد بات من الضروري اليوم أن نخوض المواجهة الحقيقية لا مع المنفذ وحده، بل مع المُنظر، لا مع العملية نفسها، بل مع الفكر المنحرف الذي سمّم العقل والروح والضمير.
لم تعد المعركة ضد الإرهاب معركة أمن فقط، بل معركة وعي ومعرفة وتجديد. لا بد من مراجعة شاملة للخطاب الديني، لا تكتفي بالتنديد، بل تذهب إلى الجذور، فتعيد تعريف مفاهيم مثل الجهاد، وتفكك ثنائية الإيمان والكفر، وتُعيد الاعتبار للفقه المقاصدي الذي يُراعي مقاصد الشريعة في حفظ النفس والدين والعقل والكرامة.
سوريا، وهي تحتضن في قلبها كنائس من القرون الأولى، ومساجد من فجر الإسلام، كانت نموذجًا للعيش المشترك، وشاهدًا على عصور من التراحم والتسامح. واليوم، فإن التفجير الذي ضرب كنيسة مار إلياس لا يهدد الكنائس وحدها، بل يهدد فكرة سوريا نفسها: سوريا المتعددة، الجامعة، الحضارية.
إن مواجهة هذا الفكر المتطرف لا تكون بخطاب العاطفة وحده، بل بخطاب علمي رصين، تسانده مؤسسات تعليمية ودينية، وقوانين تحمي التعددية والمواطنة وتحاسب المحرّضين، وتمنع بث الكراهية والتحريض من على المنابر وفي وسائل الإعلام، وعلى صفحات الإنترنت.
في النهاية، لا يكفي أن نلعن القتلة، بل يجب أن نكسر أقلام من علّموهم الكراهية. لا يكفي أن نبكي الضحايا، بل أن نحمي غيرهم من المصير ذاته. ولا يكفي أن نكتفي بردود الأفعال، بل أن نصنع فكرًا مضادًا، وفهمًا دينيًا راشدًا، يردّ على الجهل بالعلم، وعلى التكفير بالتفسير، وعلى الظلام بالنور.