لم يعد للحديث عن الشرعية معنى في عالم تنتهك فيه السيادات جهارا وتدار فيه الصراعات بوسائل خفية تتجاوز المواثيق والقوانين الدولية فما جدوى الحديث عن "الشرعية" حين تتحرك القوى الكبرى خارج إطار الشرعية الدولية وتفرض الوقائع على الأرض بقوة السلاح أو التكنولوجيا أو النفوذ ويبدو أن العالم مقبل على مرحلة يعاد فيها تعريف المسموح والممنوع ليس وفق القانون بل وفق من يملك اليد الطولى قانون الغاب يعود بثوب معولم وقوة البقاء لم تعد للأحق بل للأقوى والأدهى وهو ما ينذر بأن القوة لا العدالة ستكون عنوان المرحلة القادمة فما جرى من هجمات إسرائيلية بدعم أمريكي على المنشآت النووية الإيرانية لا يمكن وصفه إلا بأنه تحول صريح نحو عصر "الضربات تحت الطاولة" حيث تتقاطع التكنولوجيا والجاسوسية والسياسة الخارجية في لعبة كبرى تتجاوز القانون الدولي وتفرض منطق "القوة الذكية" بدلا من المواجهة العسكرية التقليدية.
العملية لم تكن مجرد استهداف لمنشأة بل رسالة سياسية مزدوجة أولها أن إسرائيل لن تنتظر توافقا دوليا أو قرارات من مجلس الأمن لتأمين ما تعتبره أمنها القومي وثانيها أن الولايات المتحدة لا تزال تملك ولو من وراء الستار قدرة على إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة عبر أدوات غير مباشرة دون أن تدفع كلفة المواجهة الشاملة وفي المقابل يجد النظام الإيراني نفسه محاصرا في مساحة رمادية فهو لا يستطيع أن يرد بشكل مباشر دون أن يفتح أبواب الحرب الشاملة ولا يمكنه أن يسكت دون أن يظهر هشاشة أمنية داخلية وهكذا تصبح السيادة الإيرانية محل اختبار وسياسيا يعكس المشهد انهيار ثقة دولية في آليات ضبط التوازن النووي بالطرق الدبلوماسية.
أما على مستوى القانون الدولي فالصمت الدولي إزاء هذه الهجمات يعكس ازدواجية المعايير في التعامل مع مبدأ السيادة وحق الدفاع دول تدان لأنها تطور قدراتها وأخرى تترك حرة في تدمير تلك القدرات خارج أي إطار قانوني إن ما حدث ليس مجرد ضربة أمنية ناجحة بل تأكيد جديد أن منطق "الشرعية الدولية" يتعرض للإقصاء التدريجي أمام منطق "الشرعية بالقوة"وهو تطور بالغ الخطورة لأن القواعد التي تكسر في طهران اليوم قد تكسر غدا في أي عاصمة أخرى ومن منظور القانون الدولي تقييم هذه الهجمات يتوقف على عدة اعتبارات قانونية رئيسية فمهاجمة منشآت داخل إيران دون إعلان حرب أو تفويض دولي يعد خرقا واضحا للمادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة التي تمنع استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية لدولة ذات سيادة ولم يصدر أي قرار دولي يجيز ضرب إيران وبالتالي فإن هذه الهجمات ليست مغطاة قانونيا من الناحية الأممية وتبرر إسرائيل وأمريكا أعمالهما بـ"الدفاع عن النفس" وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لكن القانون الدولي لا يعترف بالهجوم الوقائي الاستباقي كسبب كاف لاستخدام القوة بل يشترط وقوع هجوم مسلح فعلي أو وشيك بشكل واضح وبالتالي تعتبر معظم الفقهات القانونية الهجمات على إيران غير مبررة قانونيا وبالطبع لإيران من الناحية القانونية الحق في الرد المتناسب ومع أن العالم يتسامح أحيانا مع هذه العمليات بسبب المخاوف من "انتشار الأسلحة النووية" إلا أن ممارستها تضعف النظام الدولي القائم على احترام السيادة وتفتح الباب أمام فوضى "الحرب غير المعلنة" التي قد يستخدمها الآخرون بالمثل مستقبلا فهل يعود الجميع إلى طاولة المفاوضات وإن عادوا فعلام يتفاوضون وقد سقط الحلم النووي الإيراني وعلينا ألا ننسى أن الهدف غير المعلن هو سقوط النظام وعلى ظني أن صافرة بدء هذا المارثوان قد أطلقت بتدمير المنشآت النووية وما الحشد العسطري الواسع إلى إشارة بليغة على ذلك.
وفي الواقع أن إيران على مدار العقود الماضيةلم تكن دائما الطرف الملتزم بالقواعد التقليدية للشرعية الدولية فقد دعمت جماعات مسلحة عابرة للحدود وتدخلت في شئون دول الجوار وساهمت في تأجيج النزاعات الطائفية في أكثر من ساحة من لبنان إلى سوريا إلى اليمن مستخدمة أدوات الحرب بالوكالة والسيطرة غير المباشرة وكلها أدوات بعيدة عن الشرعية الكلاسيكية المعترف بها دوليا كما أن طهران كثيرا ما مزجت بين خطاب المظلومية والمواجهة فتدعي الدفاع عن سيادتها في الوقت الذي تخترق فيه سيادة الآخرين وتدين انتهاك القانون الدولي بينما تخرقه بوسائل غير تقليدية سواء عبر التسلل الإلكتروني أو عبر أذرعها الإقليمية ولكن رغم هذا السجل فإن انتهاك الآخرين لسيادتها لا يكتسب شرعية فقط لأن طهران نفسها قد انتهكت الشرعية في سياقات أخرىالقانون الدولي لا يقوم على مبدأ "العين بالعين" بل على مبدأ السيادة المتساوية لجميع الدول بصرف النظر عن مواقفها أو سياساتها وبالتالي فإن حق إيران في الحديث عن الشرعية يظل قائما من حيث المبدأ لكنه يتآكل سياسيا وأخلاقيا حين تمارس السياسة بمكيالين تطالب بما لا تلتزم به وتدين ما تمارسه في الخفاء.