عاجل

في مقال سابق، تناولنا مفهوم الحوار بين أتباع الأديان، مؤكدين أن العلاقات الطيبة والحوار البنّاء لا يعنيان بأي حال من الأحوال تذويب الفوارق العقائدية أو الخلط بين الأديان، بل إن لكل دين خصوصيته، ولكل أتباعٍ إيمانهم العميق الذي يشكل جزءًا من هويتهم الإنسانية.
وفي هذا السياق، نسلط الضوء في هذا المقال على أبرز العوامل التي تضمن نجاح هذا الحوار وتُسهم في تحقيق نتائج ملموسة يستفيد منها الجميع، أفرادًا ومجتمعات، وذلك على النحو الآتي: 
أولًا: النية الصادقة والاستعداد الحقيقي: لابد أن يكون هناك استعداد تام ونوايا طيبة بين علماء الأديان المنوط بهم إجراء الحوار والإشراف عليه؛ لأنه إن لم يكن هناك إيمان راسخ بأهمية الحوار بين دعاته فلن يكون هناك حوار حقيقي ذو أثر جلي تجني ثماره الشعوب، وسيتحول الحوار إلى عملية بروتوكولية وشكلية تفتقر إلى الروح والتأثير، ظاهرها الحوار وباطنها عبأ ثقيل على القائمين عليه، قد لا يستطيع بعضهم تحمله.

 والتجارب السابقة تشير إلى أن التصريحات المتشددة من بعض المنوط بهم إجراء عملية الحوار كانت سببًا في تعثر أو توقف مسارات حوارية مهمة في فترات زمنية سابقة.
ثانيًا الاستفادة من التجارب الحوارية الناجحة: شهد العقد الأخير عددًا من التجار الناجحة للحوار بين أتباع الأديان، أبرزها تجربة "بيت العائلة المصرية"، التي أُطلقت بمبادرة من فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وبتعاون كريم من البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية الراحل. وتمثل هذه المبادرة نموذجًا فريدًا لترسيخ المشتركات الوطنية والدينية بين المسلمين والمسيحيين في مصر، حيث تضم لجانها علماء من الأزهر الشريف ومن مختلف الكنائس في مصر. 
 

كما كان للأزهر الشريف دور بارز في تجارب حوارية دولية مع الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي وكنيسة كانتربري، وأسفرت هذه اللقاءات عن مؤتمرات وبروتوكولات تعاون كان من أبرز نتائجها "وثيقة الأخوة الإنسانية"، التي شددت على أهمية الحوار لخدمة الإنسانية، والسلام العالمي، والحفاظ على البيئة.
ثالثًا الاعتراف المتبادل بين المتحاورين شرط أساسي: لا يمكن لأي حوار حقيقي أن ينجح إذا غاب الاعتراف المتبادل بين الأطراف المتحاورة. فالشعور بالتفوق أو إنكار الآخر يقوّض أسس الحوار من جذورها. والاعتراف لا يقتصر على التعددية الدينية فحسب، بل يشمل التعددية الثقافية والعرقية واللغوية. ويُعد الفيلسوف الألماني "هيجل" من أوائل من أشاروا إلى أن الاعتراف حاجة جوهرية للإنسان. بينما طور الفيلسوف الكندي "تشارلز تايلر" هذا المفهوم عبر طرحه لمصطلح "سياسة الاعتراف"، معتبرًا أن الاعتراف الثقافي لا يقل أهمية عن العدالة الاجتماعية، إذ أن تجاهل ثقافة معينة هو في حقيقته إنكار لقيمة أصحابها.
إن عدم الاعتراف بالتنوع الديني بصفة خاصة والثقافي بصفة عامة داخل المجتمعات ذات التعدديات الثقافية له عديد من المخاطر، لا سيما في ظل التغير السريع الذي طرأ على وسائل التواصل وتكنولوجيا الاتصالات الشعبية في عصرنا الراهن. إذ أوجد هذا التغير ساحات تفاعل وتواصل كثيرة، جعلت الناس من المجتمعات المختلفة إثنيًا أو ثقافيًا تتفاعل مع بعضها بعضا وتتواصل مع بعضها بعضا بصورة مباشرة وغير مباشرة، وهو ما يحفز الفئات غير المعترف بها على التشبث بثقافتها، وإلباسها ثوب الهوية، كرد فعل على ما تتعرض له من عدم اعتراف بها. ولهذا، فإن الاعتراف بالتنوع لم يعد ترفًا ثقافيًا أو خيارًا سياسيًا، بل ضرورة مجتمعية وإنسانية، تفرضها طبيعة العصر وتداخل الشعوب والثقافات. فالتهميش يؤدي إلى انغلاق الهويات، بينما يعزز الاعتراف ثقافة التعايش والسلام. 
وإذا لم يُبدِ علماء الأديان المكلّفون بالحوار اعترافًا عمليًا ومتبادلًا ببعضهم بعضًا، فإن أي حوار يجري بينهم سيفتقر إلى المصداقية، وسيفشل في تحقيق أهدافه المرجوّة. 
رابعًا الإيمان بأن الحوار بين أتباع الأديان هو جزء من الحوار الحضاري بين الشعوب: لا شك أن الدين يشكّل عنصرًا أساسيًا في تكوين الحضارات، إلى جانب مكونات أخرى مثل اللغة، والتاريخ، والثقافة. ومن هذا المنطلق، فإن الحوار بين أتباع الأديان لا ينفصل عن الإطار الأوسع للحوار بين الحضارات. ولكي يكون هذا الحوار فاعلًا ومثمرًا، لا بد أن يقوم على حسن النية والتفاهم المتبادل، بما يسهم في تجاوز النظريات السلبية التي رُوّج لها، مثل "صراع الحضارات" و"حتمية الصدام"، وهي أطروحات لم تجلب سوى التوتر والانقسام، وأضرت بالعالم بأسره وبمستقبل الإنسانية على هذا الكوكب.

تم نسخ الرابط