كل عام، تتكرر الطقوس ذاتها في المجتمعات العربية: حالة استنفار جماعي مع اقتراب موسم الامتحانات. تتحوّل البيوت إلى ثكنات دراسية، المدارس إلى بؤر ضغط، والطلاب إلى متسابقين في مضمار لا يسمح بالهفوات. لكن خلف هذا المشهد الذي يبدو مألوفًا، يكمن واقع نفسي واجتماعي بالغ العمق والتعقيد، يحتاج إلى قراءة تتجاوز سطح الأرقام والنقاط.
الامتحانات، في جوهرها، ليست مجرد اختبارات للمعرفة، بل تحوّلت عبر الزمن إلى "امتحان مجتمعي شامل للنجاح والفشل، للقبول والرفض، للقيمة واللا قيمة". إنها لحظة يُختزل فيها مصير الفرد، لا استنادًا إلى طاقته الكامنة، بل وفق معايير نمطية لا تراعي الفروق الفردية، ولا السياقات النفسية، ولا حتى الميول الشخصية. الامتحان لا يقيس ما تعلّمه الطالب فحسب، بل يُقاس به حجم تقديره الاجتماعي داخل الأسرة، والمدرسة، وحتى لدى الأقارب والجيران.
على المستوى النفسي، تُشكّل الامتحانات في الوعي الجمعي العربي أعلى درجات التهديد للذات. يشعر الطالب أن هويته، احترامه لذاته، نظرته للمستقبل، بل ومحبّة أسرته، كلّها مرهونة بما سيكتبه على ورقة بيضاء في زمنٍ محدود. وهنا تبدأ سلسلة من الاضطرابات النفسية التي تتفاوت في حدّتها: من القلق العابر، إلى نوبات الهلع، فالاكتئاب، وربما التفكير في الانسحاب أو حتى الانتحار في الحالات القصوى. وتشير دراسات عربية ميدانية إلى أن نسبة كبيرة من المراهقين تربط بين الامتحانات والشعور بالإرهاق الذهني والعاطفي، أكثر مما تربطها بالتحفيز أو التحدي الإيجابي.
لكن الضغط لا يقتصر على الطالب. الأسرة أيضًا تدخل في حالة "هوس جماعي" بالامتحانات، إذ ترى فيها لحظة تحقق رمزي لمشروعها التربوي والاجتماعي. يشعر الأبوان أن نتائج أبنائهما تعكس مدى نجاحهما كوالدين، وكأنهما يخضعان بدورهما لامتحان موازٍ. فتكثر المقارنات، التهديدات، التوقعات غير الواقعية، في مشهد يغيب عنه الحوار والدعم، ويحضره التوتر واللوم والعقاب. وما يزيد الطين بلّة هو استخدام منصات التواصل الاجتماعي لعرض نتائج الامتحانات كأوسمة شرف، ما يخلق ضغطًا مضاعفًا على الأسر التي تخشى "العار الرمزي" إن لم يتفوّق أبناؤها.
هذا المشهد، رغم رسوخه، ليس قدرًا محتومًا. فعند مقارنة النظام التعليمي العربي بنظيره في بعض الدول الغربية، نلاحظ فرقًا في المنهج والفلسفة. هناك، تُعدّ الامتحانات واحدة فقط من أدوات التقييم، لا محكمة نهائية تصدر حكمًا على قيمة الطالب. تُقدَّر المهارات المتنوعة، وتُدمَج الفنون والرياضة والمشاريع العملية في التقييم. تُفتح المسارات أمام ذوي المواهب التقنية والإبداعية، ولا يُقصى من لا يُجيد الحفظ التقليدي. أما في أغلب الأنظمة العربية، فما يزال الامتحان التحريري هو الحَكَم الفصل، بل في أحيان كثيرة هو "الوحيد".
من الزاوية الاجتماعية، ترتبط الامتحانات في منطقتنا بقيمة مجتمعية تُعلي من الحفظ والانضباط على حساب الإبداع والخيال. الطالب المثالي هو من يحفظ المقرر عن ظهر قلب، ويعيده بلا خطأ. أما الطالب الذي يطرح الأسئلة، أو يشكّك في المعلومة، أو يعبر عن رأي مستقل، فهو غالبًا ما يُوصف بالمزعج أو غير الجاد. وهذا ما يخلق جيلًا مطيعًا أكثر منه ناقدًا، خائفًا أكثر منه مبدعًا، يسعى إلى إرضاء المعايير بدل كسرها أو تطويرها.
من هنا، تصبح الامتحانات ليست مجرد لحظة تعليمية، بل مرآة لبنية اجتماعية تفرض نموذجًا محددًا للنجاح، لا يعترف بالهشاشة، ولا يرحب بالاختلاف، ولا يمنح فرصة حقيقية لتعدد الذكاءات. المجتمع هنا يعيد إنتاج نفسه من خلال أنظمة تكرّر الإجابات ولا تطرح الأسئلة.
فهل الحل في إلغاء الامتحانات؟ ليس بالضرورة. بل في إعادة تعريفها: متى، ولماذا، وكيف نقيس التعلم؟ في تحويلها من أداة ضغط إلى وسيلة تشجيع. في تدريب المعلمين على قراءة العلامات النفسية عند الطلاب، وإشراك الأسر في دعم صحي وواقعي لأبنائها. في نشر ثقافة تعليمية جديدة تعترف بأن النجاح الحقيقي لا يُقاس بدرجات نهائية، بل بطالب يعرف نفسه، ويثق بقدراته، ويستمتع بتعلّمه.
إن الخروج من فخ الامتحانات لا يعني التحرر من التقييم، بل التحرر من "الفكرة العقابية للتعليم". فالتربية لا يجب أن تكون حلبة سباق، بل ورشة نمو. وما نحتاجه اليوم، ليس فقط إصلاح الامتحانات، بل إعادة تربية المجتمع على التربية نفسها.