عاجل

هل يشتعل قطاع الطاقة العالمي مع تصاعد الصراع الإسرائيلي الإيراني؟

جانب من الأحداث
جانب من الأحداث

مع اندلاع وتصاعد حدة المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران منذ يوم 13 يونيو 2025، يشهد قطاع الطاقة العالمي حالة تأهب قصوى، لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة الأزمة. فبينما ارتفعت أسعار النفط الخام العالمية، بعد العدوان الإسرائيلي على إيران مباشرة، بنسبة تصل إلى 7 في المائة، لتصل أسعار العقود الآجلة لخام برنت القياسي (تسليم أغسطس) إلى 74.59 دولارًا للبرميل، متأثرة بمخاوف تعطل الإمدادات، إلا أن هذه الأسعار لا تزال، وقت كتابة هذا المقال، دون مستويات الذعر بكثير، مما يعكس "الثقة" في سلامة وأمن البنية التحتية الأساسية للإمدادات العالمية من النفط والغاز الطبيعي.

ومع ذلك، يبدو أن هذه "الثقة"، والتي يمكن وصفها بـ "الهشة"، بدأت في التراجع التدريجي، مع بداية الضربات العسكرية الاسرائيلية المباشرة على محطات الانتاج الرئيسية في إيران، وفي ظل  عدم وجود مؤشرات على خفض التصعيد العسكري بين الجانبين. فبعد سلسلة من التهديدات الإسرائيلية باستهداف البنية التحتية للنفط والغاز في إيران لحرمانها من مصادر تمويل أنشطتها العسكرية والنووية، هاجمت طائرة مسيرة إسرائيلية المرحلة الـ14 من حقل بارس الجنوبي الإيراني، الذي يُعد أكبر حقل غاز طبيعي في العالم (تُقدَّر احتياطياته بنحو 14 تريليون متر مكعب)، وفق ما نقلته وكالة أنباء فارس الإيرانية، في 14 يونيو 2025. وكان هذا الهجوم هو الأول من نوعه الذي يستهدف منشأة طاقة في إيران خلال الهجمات التي تتعرض لها مؤخرًا من جانب إسرائيل. كما استهدفت إسرائيل أيضًا خزانات الوقود المكرر بالقرب من العاصمة طهران، كما كانت المحطات النووية في القلب من هذه الهجمات باستهداف محطات نطنز وأصفهان وفوردو. وردًا على ذلك، قامت طهران بشن هجوم صاروخي ألحق أضرارًا بمصفاة حيفا في إسرائيل، مما أدى إلى إغلاقها وتوقفها عن العمل.

ومن ناحية ثانية، تلقت الأسعار العالمية للنفط الخام دفعة قوية بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 16 يونيو 2025، والتي حث فيها الجميع على "إخلاء طهران فورًا"، في إشارة قوية على اتجاه لمزيد من التصعيد في الأعمال العسكرية الإسرائيلية (وربما الأمريكية أيضًا) تجاه إيران، خاصة وأن ترامب رفض التوقيع على البيان الختامي لقمة دول السبع في كندا، والذي نص على ضرورة خفض التصعيد بين الجانبين الإسرائيلي والإيراني.

وبالتزامن مع ذلك، تم صب مزيد من الزيت على النار "المشتعلة" في سوق النفط العالمية بعد أنباء عن احتراق ثلاث من ناقلات النفط بالقرب من مضيق هرمز في 17 يونيو 2025، وذلك وفقاً لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

 

تراجع الثقة في الصمود

 


"الثقة الهشة" في استقرار قطاع الطاقة العالمي قد لا تصمد طويلًا في ظل إصرار إسرائيل على وضع البنية التحتية الحيوية للطاقة الإيرانية في "مرمى النيران"، والمضي قدمًا في عملياتها العسكرية للقضاء على البرامج النووية والصاروخية لدى إيران. حتى كتابة هذا المقال، تجنبت إسرائيل استهداف البنية التحتية الرئيسية لصادرات الطاقة الإيرانية، واختارت بدلاً من ذلك شنّ ضربات محدودة على حقل إنتاج للغاز ومصافي النفط ومنشآت التخزين المحلية، وخاصة حول طهران. ورغم تأثير هذه الضربات سلبيًا على قطاع الطاقة الإيراني، إلا أنها لم تُؤثّر بشكل ملموس على تدفقات الصادرات الإيرانية إلى الخارج، وهو ما تعتبره القيادة الإيرانية "خطًا أحمر". ويمكن تفهم هذا الموقف من جانب طهران إذا ما علمنا أن عائدات النفط والغاز ما تزال هي "شريان الحياة المالي" للنظام الإيراني. إذ تُدرّ الصادرات الإيرانية من النفط والغاز أكثر من 36 مليار دولار سنويًا. كما تعتمد أكثر من 75% من كهرباء إيران على الغاز الطبيعي المنتج محليًا. وبالتالي إذا ما تم قصف مرافق  البنية التحتية الرئيسية للإنتاج والتصدير، فإن ذلك سوف يفاقم الأوضاع الداخلية الإيرانية بشدة، وبالتالي سوف تزداد إمكانية حدوث مزيد من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وهو الأمر الذي قد يقود في النهاية إلى الإطاحة بالنظام الحاكم في طهران.

وفي هذا السياق، يتوقع كثير من المراقبين أن تكون العواقب "بالغة السوء" على قطاع الطاقة العالمي، إذا ما تحوّلت إسرائيل من الحرب العسكرية إلى الحرب الاقتصادية باستهداف البنية التحتية الهيدروكربونية الإيرانية، خاصة ميناء التصدير الرئيسي في جزيرة خرج الإيرانية.

وبالمثل، إذا صعّدت طهران ضرباتها الصاروخية الموجهة للمدن الإسرائيلية الكبرى مثل تل ابيب وحيفا وغيرها، أو شنت حربًا بالوكالة على القواعد العسكرية الغربية والأمريكية المنتشرة في منطقة الخليج العربي (خاصة في البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية) من خلال المليشيات التابعة لها في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، فإنّ حسابات المخاطر المرتبطة بقطاع الطاقة العالمي ستتغير جذريًا. وفي هذا السياق، يشير المراقبون إلى إجراءات متعددة يمكن أن تتخذها طهران من أجل تهديد الشحن التجاري للنفط والغاز الطبيعي في منطقة الخليج العربي، من خلال استخدام الطائرات المسيرة والهجمات الصاروخية السريعة، بما في ذلك صواريخ كروز "نصر" و"نور". كما أن من شأن استخدام الألغام من جانب طهران في نقاط الاختناق البحرية، مثل مضيق هرمز أو باب المندب، أن يمثل تصعيدًا ذي تأثير هائل على قطاع الطاقة العالمي.

ويشار في هذا الصدد إلى أن إيران قد هددت أكثر من مرة بإمكانية إغلاق مضيق هرمز، والذي يمر عبره حوالي 20 مليون برميل من النفط الخام والمكثفات والمنتجات المكررة يوميًا، بجانب 11 مليار قدم مكعبة من الغاز المسال، التابعة للعديد من الدول المصدرة، وعلى رأسها قطر والإمارات العربية المتحدة. ولذلك فإن أي قيود محتملة على الملاحة في المضيق يمكن أن تتسبب في مشكلات كبيرة لأمن إمدادات الطاقة للدول المعتمدة على الغاز الطبيعي، لا سيما الدول الآسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين. ويشير الخبراء إلى استبعاد إمكانية تنفيذ هذا التهديد من جانب طهران، إلا إذا "لم يكن لديها ما تخسره". وبما أن إيران تواصل تصدير النفط والمكثفات، رغم تصاعد المواجهة العسكرية مع إسرائيل، وتحتاج إلى الاستمرار في ذلك لتمويل عملياتها العسكرية، فمن غير المرجح أن تتخذ إجراءات لإعاقة أو وقف أي حركة لناقلات النفط والغاز الطبيعي عبر مضيق هرمز.

 

حتى مع عدم إغلاق مضيق هرمز، لا يبدو أن قطاع الطاقة العالمي سوف يظل لفترة طويلة بعيدًا عن "الاشتعال"، خاصة إذا ما استمر التعثر في العودة إلى مائدة المفاوضات بين واشنطن وطهران. فعلى سبيل المثال، من الواضح أن هناك قلقًا كبيرًا لدى مشغلي ناقلات النفط العالمية وشركات الشحن العالمية في ظل تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران. إذ تُحدث تصريحات هؤلاء العلنية، وتغييرهم لمسارات الشحن، وتقييماتهم للمخاطر، تغييرات جذرية في تكاليف الشحن، وأقساط التأمين، والأهم من ذلك، في معنويات أسواق الطاقة العالمية. ومن ذلك، مثلاً، ما كشفته وكالة رويترز للأنباء في 16 يونيو 2025 من أن حجوزات ناقلات النفط العملاقة على خطوط الشرق الأوسط إلى آسيا انخفضت بشدة، منذ اليوم الذي اندلعت فيه المواجهات العسكرية بين تل أبيب وطهران، مع ارتفاع أسعار الشحن بأكثر من 20% لتصل إلى حوالي 55 على مقياس وورلدسكيل، وهي إشارة كافية تدفع مالكي الناقلات العملاقة إلى انتظار ما سيحدث. كما أشار محللون في بورصة لندن أيضًا إلى أنه في حين لا تزال ناقلات النفط والغاز الطبيعي المسال متاحة في منطقة الخليج العربي لرحلات التأجير الخارجية، إلا أن العقود الجديدة آخذة في النضوب، مما يؤكد حالة الحذر المفاجئة التي سادت العالم.

ومن جهة أخرى، أفادت وكالة رويترز أيضًا أن مالكي السفن الأصغر حجمًا يُحجمون بالمثل عن تقديم عروضهم لتأجير السفن، حيث أصبحت أسعار تأجير السفن للتصدير محدودة للغاية في منطقة الخليج العربي، كما ارتفعت أسعارها بشكل كبير للغاية. فبعد أن كانت تتراوح بين 3.3 و3.5 مليون دولار للرحلة، يتوقع الوسطاء، عند كتابة هذا المقال، أن تصل الأسعار إلى ما يقارب 4.5 مليون دولار. وفي نفس السياق، أعلن رئيس شركة فرونتلاين، أكبر شركة ناقلات نفط في العالم لصحيفة فاينانشال تايمز أن شركته قد أوقفت الحجوزات الجديدة تمامًا من منطقة الخليج العربي.

ومن ناحية ثانية، سوف يتأثر قطاع الطاقة العالمي أيضًا بارتفاع تكلفة التأمين على ناقلات النفط والغاز الطبيعي، في ظل استمرار المواجهات العسكرية بين طهران وتل أبيب. ويقدر الخبراء، وقت كتابة هذه السطور، أن ناقلات النفط التي تعبر مياه الخليج العربي تتطلب تأمينًا إضافيًا ضد مخاطر الحرب الإسرائيلية-الإيرانية يتراوح بين 3 و8 دولارات للبرميل، مما يؤدي إلى قفزة كبيرة في تكاليف النقل، وبالتالي زيادة أسعار النفط الخام العالمية في الاقتصادات الكبرى المستوردة له، وهو ما يدفع أيضًا نماذج تسعير منتجات الطاقة المختلفة في معظم دول العالم إلى الارتفاع.

على أية حال، يمكن القول إن الصراع والتوتر القائم بين إيران وإسرائيل يحمل في طياته قدرة كبيرة على التأثير العميق في أسواق الطاقة العالمية. كما أن السلوك العدواني لإسرائيل في المنطقة، وهجماتها العسكرية المتزايدة على جيرانها، والتي تتجاهل جميع القوانين الدولية، تُعدّ تهديدًا بالغ الخطورة للعالم بأسره. فالصراع الدائر بينها وبين إيران لن يقتصر على زعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل يحمل أيضًا إمكانات خطيرة لزعزعة أمن الطاقة العالمي والاقتصاد العالمي بأكمله.

ومما يزيد من خطورة الوضع أن الحكومة اليمينية المتشددة في إسرائيل تبدو عازمة على استمرار التصعيد العسكري، مع العمل على "قطع شرايين" إيران الاقتصادية، من خلال وقف وتدمير مرافق صادراتها النفطية، لتجنب حرب استنزاف طويلة مع طهران وإنهاء الحرب بسرعة. فإذا ما حدث ذلك، فلن يكون أمام قادة طهران إلا تنفيذ تهديداتهم بغلق مضيق هرمز الاستراتيجي. وكما صرّح عدد من كبار المسئولين الإيرانيين مؤخرًا، إذا تضررت منشآت النفط الإيرانية بشدة، فلن تسمح طهران لأي دولة في المنطقة باستخدام نفطها أو غازها الطبيعي.

فإذا ما تحقق هذا السيناريو الكابوس، فسوف يشهد العالم اضطرابات وانقطاعات خطيرة في إمدادات الطاقة العالمية، وهو الأمر الذي ينذر بموجات من ارتفاع أسعار الطاقة العالمية وصدمات اقتصادية وتضخمية رهيبة، قد تهدد استقرار الاقتصاد العالمي. وهذا بدوره قد يؤدي إلى انتشار الصراع ليشمل مناطق أخرى في آسيا وأوروبا، والتي تعاني أصلاً من شح في امدادات الطاقة. وبعبارة مختصرة، الأيام القادمة حاسمة.

تم نسخ الرابط