«ما بعد الحقيقة»..العربي للأبحاث: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب محمد بهضوض بعنوان: ما بعد الحقيقة: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل. وهو يقع في 423 صفحة، شاملًا ملخّصًا تنفيذيًّا، ومقدمة، وخمسة عشر فصلًا موزّعة على خمسة أقسام، وخاتمة. يسعى هذا الكتاب لمقاربة ظاهرة "ما بعد الحقيقة" بوصفها تحوّلًا فارقًا في بنية الخطاب الإعلامي المعاصر، حيث بات المشهد غارقًا في الأخبار الزائفة ونظريات المؤامرة، لا سيما مع تصاعد دور وسائل التواصل الاجتماعي، حتى إنّ بعض المفكرين رأوا في هذا التبدّل مظهرًا لنمط معرفي جديد تُرجِم بمصطلح "عصر ما بعد الحقيقة"؛ وهو العصر الذي تراجعت فيه الحقيقة لمصلحة التضليل، وعلا فيه صوت الخداع على العقل.
تحوّلات المعرفة في زمن "ما بعد الحقيقة"
بحسب هذا الكتاب، ليست ظاهرة الممارسات التضليلية وليدة اللحظة، ولكنّ الطفرة التكنولوجية، وانتشار الوسائط الرقمية غير المسبوق، في بيئات اجتماعية هشّة وسياقات سياسية مأزومة، ساهما في تفاقم هذه الظاهرة، فغدت معضلة معاصرة يصعب تطويقها. منذ عام 2016، ومع صعود موجات الشعبوية التي تزامنت مع الانتخابات الأميركية والبريطانية، برز اهتمام أكاديمي متزايد بهذه الإشكالية، بوصفها نتيجةً لتحوّلات ثقافية وتكنولوجية وسياسية عميقة تُنذر بتبدّل وجه العالم.
ينطلق الكتاب من مفارقة لافتة للانتباه تقول ما يلي: كلما ازدادت أدوات الاتصال والانفتاح المعلوماتي، تراجعت فرص الفهم، وتعمّقت الفجوة بين المعرفة والوعي؛ ومن ثمّ تغيب البوصلة في طوفان الوقائع المفبركة. فبدلًا من تحقيق الوعد التكنولوجي بالانسجام والتقارب، بدا أن العواطف والمعتقدات قد بسطت هيمنتها على العقل، خصوصًا مع تنامي التيارات الفلسفية التي زعزعت المفاهيم المرجعية للحقيقة، وفي مقدمتها تيار ما بعد الحداثة الذي شرعن النسبية المطلقة، وفسح مجالًا لتأويلات ذاتية تُشكّك في كل معيار.
جذور الظاهرة وبُعدها البنيوي
تتمثّل الفرضية الجوهرية في كتاب ما بعد الحقيقة، في أن الأخبار المضلِّلة ليست حدثًا جديدًا، بل تعود جذورها إلى صراعات قديمة بين الفلاسفة والسفسطائيين، بين العقل والدجل، بين التنوير والكنيسة. وما تغيّر اليوم هو الطابع البنيوي لهذا التضليل، في ظل نظام رأسمالي ليبرالي يُعظّم القوى الشعبوية ويُروّج للوهم على أنه حقيقة. وفي هذا السياق، تعجز الدولة الحديثة عن إنتاج نظام جامع للحقيقة أو حماية مواطنيها من التضليل، في حين يتحوّل الإعلام ذاته إلى أداة مركزية لنشر الزيف، وهذا ما ظهر جليًّا في التغطيات الإعلامية لجائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19). وإلى جانب هشاشة المؤسسات، تبرز قابلية الجماهير لتصديق الأكاذيب حين يكون مصدرها شخصيات اعتبارية أو وسائل إعلامية ضخمة؛ ما يكرّس منطق الدعاية والتمويه بدلًا من السجال الحر. وعلى الرغم من مسؤولية اتجاهات فلسفية عن التشكيك في مفهوم الحقيقة، فإن الفلسفة نفسها، بما هي ممارسة نقدية أصيلة، تظلّ قادرة على مساءلة ذاتها واستعادة دورها في ترميم المفاهيم وتقويض الوهم.
ومن هذا المنطلق، يطرح الكتاب أسئلة مركزية من قبيل ما يلي: ما دلالات المفاهيم المتشابكة التي تتصل بموضوع الحقيقة والكذب والدعاية و"ما بعد الحقيقة"؟ أنحن أمام ظاهرة جديدة أم أنّ الأمر ليس إلّا إعادةَ تدويرٍ لصراع قديم؟ أهذه الظاهرة واقعية فعلًا أم هي شعار إعلامي فحسب؟ كيف تُصاغ الحقيقة اليوم؟ ومن يملك سلطة تشكيلها أو تفكيكها؟ وما حدود تأثير العاطفة في تشكيل الرأي العام حين تتوارى الوقائع خلف سرديات مصنوعة بعناية؟
"ما بعد الحقيقة" ومجالات تجلّي الظاهرة
لهذا الكتاب موقع مَفصلي، ذلك أنه يقدّم معالجة فلسفية ومعرفية لهذه لظاهرة "ما بعد الحقيقة"، متجاوزًا الطابع الوصفي إلى تحليل معمّق للسياقات والآليات؛ فهو ينطلق من مقولة إرنست رينان الشهيرة: "الأفكار هي التي تقود العالم"، مع استحضار واقعية كارل ماركس وجدليّته، ليؤكد أن ظاهرة "ما بعد الحقيقة" ليست أطروحة تجريدية، بل هي واقع ملموس يمتدّ إلى حياتنا اليومية. ومن ثمّ، تُطرح أسئلة شائكة عن العلاقة بين الحقيقة والتضليل والدعاية ونظريات المؤامرة، وعن حضور هذه المفاهيم تاريخيًّا وراهنًا، فضلًا عن الغرض من إثارتها في وقتٍ معيّن تحديدًا.
العقبة الأولى التي يعالجها كتاب ما بعد الحقيقة هي عقبة لغوية ومفاهيمية، تتصل ببلورة المفاهيم وتاريخ تشكّلها ودلالاتها. فإلى جانب مفاهيم كلاسيكية، مثل الحقيقة والكذب، ظهرت مصطلحات حديثة مثل "ما بعد الحقيقة"، و"الأخبار الزائفة"، و"الوقائع البديلة"، وهي مفاهيم أنكلوساكسونية النشأة، فُرضت على النقاش العالمي. وقد سَعت فصول الكتاب لتفكيك العلاقة بين بعضها وبعضها الآخر من زوايا فلسفية واتصالية ومعرفية، للانتهاء إلى أن فكرة "ما بعد الحقيقة" تُعدّ نقيضًا للحقيقة، وتتغذى على إرث الشك الفلسفي وتيارات ما بعد الحداثة.
بعد ذلك، ينتقل الكتاب من التنظير إلى التحليل العملي؛ إذ يدرس ستّة مجالات كبرى تتجلى فيها ظاهرة ما بعد الحقيقة بوضوح. ففي المجال السياسي، ييصبح الكذب والتضليل أداة من الأدوات الانتخابية، وفق ما حصل في انتخابات بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، حيث استغلّت الأنظمة الشعبوية هذه الظاهرة لزعزعة أُسس الديمقراطية، ممهّدة الطريق لنماذج هجينة من "الديمو-دكتاتوريات".
وفي مجال الاقتصاد، يتحدث الكتاب عن "اقتصاد الأكاذيب"، حيث تُستخدم وسائل الإعلام لصناعة صورة زائفة عن الشركات والمؤسسات؛ ما يُفقد السوق آليات الشفافية والمساءلة. وعلى مستوى العلاقات الدولية، تتبدى ظاهرة "ما بعد الحقيقة" في شكل "حروب معنوية" وتضليل إعلامي واسع، توظّفه الدول لخدمة مصالحها الاستراتيجية، بعيدًا عن الأخلاق أو الحقائق الموضوعية. أما في مجال العلم، فيسلّط الكتاب الضوء على موجة الشك التي تواجه العلم الحديث، تحت تأثير نظريات المؤامرة والمعلومات المضلِّلة، وهو ما يهدّد أحد أركان التقدّم البشري. وتمتد الظاهرة إلى المجال الثقافي. ففي هذا المجال، تُستخدم العديد من المفاهيم، من قبيل النسبية والتعددية، في إطار شعبوي يؤجّج صراعات الهوية. غير أن البيئة التقنية، وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، تمثّل المجال الأشد تأثيرًا؛ إذ تُسرَّع دورة الأخبار الكاذبة، ويتضاعف تأثيرها عبر إعادة النشر والتضخيم المتواصلَين.
يختتم كتاب "ما بعد الحقيقة: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل" بدعوة واضحة إلى ضرورة استعادة مركزية العقل، والعودة إلى الفكر النقدي بوصفه وسيلةً وحيدةً للخروج من زمن التفاهة والجهل، مؤكّدًا أن تحرّي المفاهيم والوقائع لم يعُد ترفًا فكريًّا، بل إنّه ضرورة وجودية في عالم تتكاثر فيه الأوهام ويتأكّل فيه المعنى.