عاجل

في لحظة دقيقة من تاريخ الإقليم، وفي ظل مشهد إنساني بالغ التعقيد على حدود قطاع غزة، جاء بيان وزارة الخارجية المصرية حاسما ومتزنا، بشأن ما تم تداوله عن زيارات بعض الوفود الأجنبية للمناطق الحدودية المتجهة إلى قطاع غزة دون التنسيق الكامل مع السلطات المصرية المختصة، و لم يكن هذا البيان مجرد توضيح رسمي أو رد دبلوماسي، بل كان تجسيدا لنهج راسخ تتبعه الدولة المصرية في إدارة شؤونها السيادية، ورسالة واضحة بأن احترام سيادة مصر وأمنها القومي ليس أمرا محل تفاوض أو تجاوز، بل هو خط أحمر لا يسمح بتخطيه .

إن ما ورد في البيان يؤكد بجلاء أن مصر ليست ساحة مفتوحة يمكن تجاوز بواباتها أو تجاهل مؤسساتها فالدخول إلى أراضي الدولة، لا سيما المناطق ذات الطبيعة الحساسة والاستراتيجية، لا يتم إلا من خلال المنافذ الرسمية وبإذن الدولة و موافقتها، وفق ما تقرره مصالحها العليا و معاييرها الأمنية والسياسية ولا شك أن منطقة الحدود الشرقية، المتاخمة لقطاع غزة، تمثل أحد أهم مرتكزات الأمن القومي المصري، وتشكل معبرا أساسيا في معادلة الأمن الإقليمي، بل وفي التوازنات الدولية المتصلة بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

ولقد حرصت وزارة الخارجية المصرية، في بيانها، على أن تؤكد أن الدولة المصرية تتعامل بمسؤولية تامة في كل ما يخص القضية الفلسطينية، و بأنها لم تغلق يوما أبوابها أمام الدعم الإنساني أو السياسي للشعب الفلسطيني بل كانت مصر، وما تزال، رئة غزة التي تتنفس بها في كل الأوقات الصعبة، وراعية أساسية لمسار التهدئة ووقف إطلاق النار، والمبادرة الدائمة لفتح قنوات الحوار وإدخال المساعدات رغم التحديات الأمنية والسياسية.

ولكن، من منطلق هذا الدور، لا يمكن القبول بأن يتخطى أي طرف – أيا كان – حدود السيادة المصرية أو أن يتجاوز الإجراءات المنظمة للدخول والتحرك داخل أراضيها فمصر ليست مجرد "معبر عبور"، و إنما هي دولة ذات مؤسسات وسياسات، تتحرك بحسابات دقيقة توازن بين القيم الإنسانية والمصالح الوطنية، وتحفظ للدولة مكانتها وقدرتها على التأثير في الملفات المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

ما حدث من بعض الوفود، بحسب ما جاء في البيان، يحمل نوعا من التجاوز غير المقبول، ويعكس تصورا ساذجا أو متعمدا بتخطي الدولة المصرية كمحور تنظيمي في هذا الملف المعقد لذلك جاء الرد المصري واضحا : نحن من نحدد قواعد الحركة على أرضنا، ونحن من ينظم المرور إلى الحدود، بما يتسق مع القانون الدولي ومبادئ السيادة الوطنية.

وفي الحقيقة، هذا البيان يفتح نافذة مهمة لفهم الفلسفة التي تحكم أداء السياسة الخارجية المصرية؛ فهي سياسة متزنة، تستند إلى احترام قواعد القانون الدولي، وتصر على الالتزام بالقنوات الرسمية والدبلوماسية. لا مجال فيها للعشوائية أو الاستعراض السياسي أو الإملاءات غير المنسقة ولذلك فإن مصر، وهي تتحمل العبء الأكبر في دعم غزة إنسانيا وسياسيا، لا تقبل أن يتم تجاوزها أو التقليل من دورها أو إقحام أي طرف أجنبي في ساحة تماس تمس أمنها القومي بصورة مباشرة.

إن حماية الأمن القومي لا تعني الانغلاق أو التعنت، بل هي شكل من أشكال ممارسة السيادة بكل وضوح ومسؤولية. ومصر حين تفتح معبر رفح لإدخال المساعدات، وتستقبل الوفود السياسية، وتبادر باستضافة القمم والمؤتمرات لدعم الشعب الفلسطيني، فإنها تفعل ذلك من موقع القيادة، لا من موقع التابع، ومن منطلق الواجب لا المزايدة.

ولا ننسى أن هذا البيان يأتي في سياق إقليمي مضطرب، تتقاطع فيه المصالح وتتصادم فيه الإرادات، وتستخدم فيه معاناة الفلسطينيين كورقة سياسية في بعض الأحيان لذا فإن الحزم المصري في تنظيم دخول الوفود إلى مناطق حدودية أمر حيوي، ليس فقط لحماية السيادة، ولكن لمنع فوضى التدخلات، و لإبقاء الملف الفلسطيني في نطاقه الصحيح: ملف دعم وتضامن، لا ملف استعراض دبلوماسي أو تسجيل مواقف.

ولا شك أن هذا البيان المصري الحازم يعكس أيضا عمق الخبرة المتراكمة لدى الدولة في التعامل مع الملفات الحساسة، وخاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي تعد من ثوابت السياسة الخارجية المصرية فمصر، وعلى مدار عقود، لم تكن فقط وسيطا سياسيا، بل شريكا فعليا في السعي نحو تحقيق الأمن والاستقرار في الأراضي الفلسطينية، وضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومع ذلك، فهي تدرك تماما أن ممارسة هذا الدور يتطلب احتراما متبادلا مع جميع الأطراف، وأن أي تجاوز أو محاولة للالتفاف على السيادة المصرية يمثل إخلالا خطيرا بقواعد العمل الدبلوماسي ومن هنا فإن رسالة الدولة المصرية واضحة: لا دعم خارج إطار السيادة، ولا عمل إنساني بمعزل عن القانون.

في النهاية، يعكس بيان وزارة الخارجية أن مصر، كما عهدناها، تتحرك وفق رؤية ناضجة، تجمع بين المبدأ والمصلحة، وبين الانفتاح والانضباط، وبين التضامن الإنساني والدفاع الصارم عن الأمن القومى وهو درس ينبغي أن يفهمه الجميع: أن مصر تحترم الجميع، لكنها لا تسمح لأحد أن يتجاوز حدودها أو ينتهك سيادتها.

تم نسخ الرابط