عاجل

العودة إلى المقاصد .. قراءة وسطية للنصوص في مواجهة فقه الدماء

هاني ضوة

تعيش الأمة الإسلامية اليوم عصرًا يضجّ بالتحديات الفكرية، تتنازع فيه القراءات المختلفة للنصوص الدينية، وتشتد فيه سطوة ما يمكن تسميته بـفقه الدماء، حيث تُوظّف النصوص الشرعية في تبرير العنف والكراهية باسم الدين. وفي خضم هذا الواقع المأزوم، تبرز الحاجة الماسّة إلى العودة إلى المقاصد الشرعية، باعتبارها المنهج الأصيل لفهم النصوص في سياقها المتكامل، والمفتاح الحقيقي لاستيعاب روح الشريعة كما أرادها الله رحمةً وعدلًا وحفظًا للإنسان وكرامته.
لقد وقع كثيرون في فخ الجمود على ظاهر النصوص، فتناولوا آيات وأحاديث دون اعتبار لسياقاتها التاريخية، أو عللها التشريعية، أو مآلاتها الواقعية. وهو المسلك ذاته الذي سلكه الخوارج حين كفّروا الإمام عليًّا رضي الله عنه، مستندين إلى قول الله تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [الأنعام 57]، دون وعي بمقصود الآية أو مناطها. وهو ما تكرّره اليوم جماعات متطرفة كـداعش والقاعدة ومثيلاتهما، إذ تتعامل مع النصوص كقوالب جامدة تُشرعن القتل واستباحة الأرواح باسم الجهاد، بينما تغفل الآيات والمقاصد التي جعلت من حفظ النفس البشرية أحد أعظم الضروريات الخمس في الإسلام.
لقد أدرك الفقهاء الراسخون – من الإمام الشافعي إلى الشاطبي وابن عاشور – أن فهم النصوص لا يكون بتجزئتها عن سياقها، بل بقراءتها ضمن إطار كليّ يراعي المقاصد الشرعية والمآلات الواقعية. فالمقاصد ليست ترفًا فقهيًا، ولا عنصرًا زائدًا على الشريعة، بل هي روحها وغايتها، إذ لا يُتصوَّر نص شرعي إلا وهو يرمي إلى تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة. وكل قراءة تهدر هذه المقاصد، مهما بدا ظاهرها متشددًا، فهي في حقيقتها انحراف عن جوهر الدين.
ويبرز في هذا السياق النموذج النبوي كمثال أسمى على الفهم المقاصدي المتوازن للنصوص. ففي صلح الحديبية، وافق النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شروط ظاهرها يشتمل على تنازل، كحذف وصف رسول الله من نص الوثيقة، وإعادة من جاءه مسلمًا من قريش. وقد اعترض بعض الصحابة، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى المآلات بعين البصيرة، وأدرك أن الخير سيتحقق، وهو ما تم فعلاً بفتح مكة بعد أقل من عامين. ويُجسد هذا الموقف كيف يمكن للمقصد أن يوجّه الفهم، وكيف يُقدَّم التنازل الظاهري إذا كان يحقق مصلحة عليا للدين والنفس والمجتمع.

وفي الفقه العملي، قدّم الخليفة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه نموذجًا رائدًا للفهم المقاصدي، حين أوقف تطبيق حد السرقة في عام المجاعة (الرمادة)، لم يكن ذلك تعطيلًا للنص، بل تطبيقًا عميقًا له من زاوية مقاصدية تدرك أن إقامة العدل لا تكون بإقامة الحدود في بيئة يطغى عليها الظلم، بل بإزالة أسباب الظلم أولًا.
أما فقه الدماء الذي تروّج له الجماعات المتطرفة اليوم، ويُستباح فيه دم الأبرياء باسم الجهاد أو الردة، فهو نتاج مباشر لتغييب المقاصد الشرعية، وعلى رأسها حرمة النفس البشرية. قال الله تعالى ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة 32]. وهي قاعدة قرآنية جليلة لا يُستثنى منها أحد إلا بشروط دقيقة وشبه معدومة التطبيق في الواقع.
ومن النماذج الصارخة على هذا الانحراف، ما اقترفته التنظيمات المتطرفة في العراق وسوريا وغيرهما من تفجيرات استهدفت الأسواق والمستشفيات والمساجد، مستندة إلى فتاوى باطلة تُشرعن قتل من تصفهم بـ المرتدين أو الموالين للطواغيت. في المقابل، ينهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والأطفال والمدنيين في ميادين القتال كما جاء في صحيح الإمام مسلم.
وتتجذّر هذه الأزمة أيضًا في تغييب علم المقاصد عن كثير من مناهج التعليم الشرعي في عدد من البلدان، مما أدى إلى إنتاج أجيال من الخطباء والدعاة يُجيدون الحفظ دون الفهم، ويُتقنون النقل دون إدراك لسياق النصوص أو مقتضيات العصر. لذا، فإن أولى خطوات الإصلاح تبدأ بإدراج علم المقاصد كمادة أساسية في التعليم الشرعي عمومًا، لا بوصفه فرعًا تكميليًا، بل باعتباره مكونًا جوهريًا في تكوين الفقيه والمفتي والداعية.
كما ينبغي أن يمتد تأهيل الدعاة إلى التزود بأساسيات علم الاجتماع، وعلم النفس، والسياسة، حتى يُحسنوا قراءة الواقع الذي يخاطبونه، ويوازنوا بين النص والمقصد والمآل، بعيدًا عن الاجتزاء أو التسييس أو الجمود. وهو ما يتم تطبيقه بالفعل في الأزهر الشريف العامر الذي دمج في بعض مناهج كلياته المقاصد رغم اختلاف المذاهب.
وفي العصر الرقمي، تمثل وسائل الإعلام والاتصال الحديثة فرصة استراتيجية لمواجهة الفكر المتطرف، شريطة توظيفها بعلم ورؤية، من خلال إنتاج محتوى مرئي ومقروء يعيد تفسير النصوص في ضوء مقاصدها، ويُظهر عدالة الإسلام ورحمته، ويُفكك الخطابات المتطرفة بالحجة الشرعية ذاتها.

ومن هنا يبرز الدور المحوري للمجامع الفقهية وهيئات الإفتاء الوسطية في العالم الإسلامي – مثل مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ودار الإفتاء المصرية ومجمع البحوث الإسلامية وغيرهم– في تبني قراءات علمية جماعية للنصوص، تُمثّل روح الشريعة وتكبح الفوضى الفقهية الفردية التي تروّجها الجماعات المتطرفة عبر منصات غير مؤسسية.
إن العودة إلى المقاصد ليست ترفًا فكريًا، ولا خيارًا انتقائيًا، بل ضرورة شرعية وواقعية في زمن التداخل والفتن. وهي لا تمثل بديلًا عن النص، بل ضابطًا لفهمه وتطبيقه على النحو الصحيح. وإذا أردنا صيانة الدين من التحريف، والمجتمعات من الانقسام، فعلينا – علماءَ ومفكرين ومؤسسات – أن نستحضر المقاصد في كل خطاب، ونجعل منها معيارًا لتقويم الفكر والسلوك، حتى تعود للنصوص عدالتها، وللشريعة روحها، وللمجتمع أمنه واستقراره.
بل إن استحضار المقاصد بات اليوم ضرورة في الدفاع عن صورة الإسلام عالميًا في مواجهة حملات التشويه والإسلاموفوبيا، إذ تتيح هذه القراءة تقديم خطاب حضاري يُبرز أن الإسلام دين رحمة وعدالة وكرامة، لا عنف وإقصاء وسفك دماء.

تم نسخ الرابط