عاجل

لقد أصبحت الرقمنة جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل الحياة اليومية، لم تعد سلطة تشكيل الرأي العام حكرًا على النخب الفكرية أو المؤسسات الإعلامية التقليدية. بل ظهر جيل جديد من "صناع الرأي"، تمثله الشخصيات العامة والمؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي، الذين باتوا يملكون القدرة على تحريك النقاشات المجتمعية، والتأثير المباشر في منظومة القيم والأذواق والسلوكيات.

منشور قصير، فيديو سريع، أو بث مباشر قد يصنع رأيًا عامًا في ساعات، ويغيّر اتجاه الحوار المجتمعي، ويعيد ترتيب أولويات المتابعين، خصوصًا من فئة الشباب والمراهقين. أصبح من الممكن أن تتحوّل قضية فرعية إلى "تريند" يتفاعل معه ملايين المستخدمين، في حين تغيب قضايا أكثر عمقًا وأهمية عن الاهتمام الجماهيري. هذا التحول الجذري في مصادر التأثير يعكس بوضوح القوة الناعمة الهائلة التي يمتلكها المؤثرون الرقميون.

غير أن هذا الدور المتنامي لا يخلو من الإشكاليات. ففي مقابل القدرة الكبيرة على الوصول إلى الجمهور، يفتقر كثير من المؤثرين إلى الحد الأدنى من الوعي الأخلاقي أو الخلفية الفكرية التي تؤهلهم للحديث في قضايا تمس القيم، أو تثير الجدل المجتمعي. بعضهم يتعامل مع القضايا الحساسة مثل الدين، الهوية، الأسرة، والعلاقات الاجتماعية، بمنطق السخرية أو الاستعراض أو التبسيط المخلّ، ما يفتح الباب لتكوين مواقف مشوهة، أو تغذية الانقسام داخل المجتمع، بدل الإسهام في ترشيد النقاش العام أو الارتقاء به.

ثمة تحولات مقلقة يمكن رصدها في بنية القيم الأخلاقية التي يتم الترويج لها عبر المحتوى الرقمي. فالتسليع المفرط للقيم، وتحويلها إلى وسوم قابلة للتسويق، جعل كثيرًا من المفاهيم الأخلاقية تُفرغ من مضامينها، ويتم توظيفها كأدوات لجلب المتابعين أو تحقيق الأرباح. على سبيل المثال، تُطرح مفاهيم مثل الحرية، والتمكين، والتسامح، بمعزل عن سياقاتها الثقافية والدينية، وتُعاد صياغتها بما يتوافق مع منطق السوق الرقمي ومزاج "التريند" أكثر من توافقها مع حاجات المجتمع الحقيقية أو نسيجه الثقافي العميق.

ومع ذلك، لا يمكن التعميم. فهناك شخصيات عامة ومؤثرون أثبتوا وعيًا كبيرًا بمسؤوليتهم الاجتماعية، ونجحوا في توظيف شهرتهم لإثارة نقاشات مفيدة حول قضايا مثل الصحة النفسية، العنف ضد النساء، حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، أو التغير المناخي. هؤلاء قدموا نموذجًا مختلفًا لدور المؤثر، القائم على التوعية والمرافعة القيمية، لا على الإثارة المجانية أو التسويق للذات.

لكن التحدي يكمن في أن هذا النوع من المؤثرين لا يزال أقل حضورًا وتأثيرًا في الفضاء الرقمي مقارنة بمن يُتقنون اللعب على أوتار "التريند" اللحظي، دون أدنى اعتبار لما يتركه خطابهم من أثر قيمي وسلوكي. فغالبية المؤثرين تسير وفق منطق السوق: ما يُثير الجدل، يجلب التفاعل، وما يجلب التفاعل، يفتح أبواب الرعاية والإعلانات.

في خضم هذه المعادلة المعقدة، يبرز سؤال ضروري: أين دور الجمهور من كل هذا؟ فالحقيقة أن المتابعين أنفسهم يشاركون بوعي أو دون وعي في صناعة هذه المنظومة. إذ أن "الإعجاب" و"المشاركة" و"التعليق" ليست مجرد تفاعلات تقنية، بل هي أدوات شرعنة تمنح المحتوى قوته وتأثيره. الجمهور إذًا ليس مجرد مستقبل سلبي، بل هو جزء فاعل في إعادة إنتاج الخطاب الرقمي، سواء بالإيجاب أو السلب.

وإذا كانت المؤسسات التربوية والثقافية تبدو عاجزة حتى الآن عن مجاراة هذه التحولات المتسارعة، فإن الحاجة باتت ملحة لإعادة النظر في أدواتها وخطابها، بل وربما في فلسفتها التواصلية برمتها. فالمطلوب ليس فقط نقد المؤثرين أو التحذير منهم، بل العمل على تمكين الجمهور من أدوات التفكير النقدي، والتربية على الوعي الرقمي، وتعزيز حس التمييز بين المحتوى النافع والضار، والمساهمة في إنتاج خطاب رقمي بديل، جذاب في شكله، عميق في مضمونه.

كما ينبغي التفكير في إشراك المؤثرين أنفسهم في مشاريع مجتمعية وتوعوية، قائمة على الحوار والتكوين والتأطير، بدل الاكتفاء بإقصائهم أو مواجهتهم. فهم جزء من هذا الواقع الجديد، ومهما تعددت التحفظات، فإن تجاهلهم أو الاكتفاء بلومهم لن يفضي إلى حلول مستدامة. فلا يمكن إنكار أن الشخصيات العامة والمؤثرين باتوا يلعبون دورًا رئيسيًا في هندسة المزاج الجمعي، وتوجيه النقاشات الكبرى، سواء شئنا أم أبينا. لذا، فإن التعامل معهم يجب أن يكون بوعي مزدوج: وعي بخطورة تأثيرهم، ووعي بإمكانات تحويلهم إلى شركاء حقيقيين في بناء قيم مجتمعية راسخة. وحده هذا التوازن هو ما يضمن أن ننتقل من ثقافة الانفعال إلى ثقافة السؤال، ومن استهلاك التريند إلى إنتاج الوعي.

في نهاية المطاف، لسنا أمام ظاهرة عابرة، بل أمام إعادة تشكيل عميقة لطبيعة التأثير الاجتماعي في العصر الرقمي. الشخصيات العامة والمؤثرون اليوم ليسوا مجرد نجوم افتراضيين، بل هم فاعلون رئيسيون في المشهد القيمي والثقافي، وهو ما يتطلب منا جميعًا – أفرادًا ومؤسسات – قدرًا أكبر من الوعي والنقد والمبادرة. فإما أن نكون شركاء في ترشيد هذا الفضاء الجديد، أو نتركه فريسة للسطحية والانقسام والتسليع الأخلاقي.

 

تم نسخ الرابط