عاجل

أثار انطلاق قافلة من المغرب العربي لمحاولة كسر حصار غزة باسم “قافلة الصمود”، موجة متباينة من ردود الأفعال، بين متبني للجهاد الإلكتروني رافعًا للشعارات الإنسانية، وآخر متاجرًا بالأحلام الشعبية، وثالث رافضًا محللًا للآثار السلبية. 
آراء جديرة بالاهتمام، لكن أغلبها يتجاهل حقيقة “رمزية” المحاولة لكسر الحصار على غزة، والتي أكاد أجزم أن المشاركين فيها أنفسهم، سواء من تونس والجزائر وليبيا، أو من غيرها من الدول، بنيّة الوصول إلى مصر وصولًا للحدود، “متيقنون” بعدم جدواها. 
حتى إن سُمح لهم “جدلًا” بالدخول إلى الأراضي المحتلة، فماذا هم فاعلون؟ هل سيواجهون العتاد العسكري الإسرائيلي بشعارات الحرية والحقوق الإنسانية؟

هل يدركون أن هناك قصفًا تم  10 يونية بطائرات الدرون لمنظمة طبية فرنسية في دير البلح؟ ونقلت صحيفة الجارديان عن إسرائيل أن “قوات الجيش الإسرائيلي قتلت 41 فلسطينيًا” بالقرب من موقع مساعدات في غزة،  معلنة بفجر  انه في إطار  التأكيد  علي سياستها الأمنية الصارمة على الحدود ، فمن يدفع ثمن تعاطفنا هم الفلسطينيون  الضحايا الذين نسعي لانقاذهم!

فلماذا نحاول جميعًا تهدئة اللهيب دون أن نطفئ جذوة النار؟ نتعامل مع الأدوات ونتجاهل السبب. نُسكن الأعراض ونتغافل عن أصل المرض.

غاب عن المتفاعلين وسط الحشود الإلكترونية واللافتات والدموع والمشاعر، أن جذور الفتنة الأصلية المشتعلة هو “الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”، الذي لم يُحل منذ أكثر من سبعة عقود، وما زال سببًا مباشرًا لكل الحروب والتوترات في المنطقة. الأزمة ليست في غلق الحدود، بل في الاعتداء العسكري الوحشي على المدنيين. الكارثة في احتلال الأراضي وقصف مقرات منظمات الإغاثة الإنسانية بما يخالف كل القرارات الأممية، ورفض التفاوض، وكسر كل تقدم فيه، والارتداد إلى نقط صفرية.

ولا يستطيع أي محلل أن يزايد على دور مصر، ليس فقط تاريخيًا، ولكن منذ أحداث 7 أكتوبر واشتعال الصراع، وليس فقط بالمساعدات – وهي الأهم والأضخم عالميًا – بل أيضًا بالأطروحات وتعزيز المفاوضات. مع أبسط جهد على محركات البحث، تجد أن مصر تدخلت وتوسطت وحذّرت كثيرًا، طرحت حلولًا، وقدّمت خطة شاملة تستند إلى 53 مليار دولار لإعادة إعمار غزة على مدى 3–5 سنوات، دون تهجير سكانها. تعتمد على إنشاء لجنة مؤقتة من فلسطينيين تكنوقراط بعيدًا عن حماس، لتسيير شؤون القطاع وضمان الدور الحاكم للسلطة الفلسطينية.

شملت الخطة المصرية المقترحة إزالة الأنقاض، وإدارة إعادة بناء المنازل والبنية التحتية، وإنشاء عناصر أمنية (شرطة) فلسطينية مدربة من قبل مصر والأردن، مع إمكانية وجود قوة حفظ سلام دولية.

فإذا كنا راغبين حقًا في دعم أهل فلسطين في غزة، لماذا لم تتوحد الجهود العربية والإسلامية وراء المقترح بحثًا وتعديلًا، وصولًا إلى تصور يضغط على إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة لتنفيذه؟ خاصة أن دولًا كبرى مثل فرنسا وألمانيا أبدت دعمًا أو اهتمامًا، ما يجعلها مشروعًا سياسيًا قابلًا للضغط.

لا يعني ذلك أننا نهون من احتشاد أكثر من 1500 ناشط  الذين أعلنوا أنهم في طريقهم إلى رفح، وحتي مع افتراضنا سلامة النوايا، التي لا تغيّر واقعًا سياسيًا على الأرض. و مع التسليم أنهم مدفوعون بالإحساس بالعجز والعقاب الجماعي الواقع على غزة، لكنه الواقع الذي يقر بأن “تعاطفك وحده لا يكفي”. فمواقف الدول من الحلول هي الفيصل الحاكم.

ولا يمكن، في خضم المشهد العاطفي لقافلة “الصمود”، أن يفوتنا طرح أسئلة مشروعة أدت لانتفاضة شعبية مصرية تعكس وعي جمعي. فلا عقل يجيز التطوع لإطفاء نار الجيران وترك أبواب منازلنا مفتوحة للصوص لنهب بيوتنا، فسيادة الشخص على ممتلكاته، والدول على حدودها، ليست فقط قانونًا دوليًا، لكنها فطرة إنسانية.

وهنا نتساءل:
• هل تم التنسيق مع الدولة المصرية التي تسعى لحماية أمنها وحدودها في محيط متصاعد التوترات؟
• هل تم إرسال الجوازات واستخراج التأشيرات للجهات المختصة عبر القنصليات والقنوات الرسمية كما هو متبع في كل أنحاء العالم؟
• هل تتولى الوفود “غير المحدد انتماؤها ولا خلفيتها ولا موقفها الأمني” مسؤولية حماية المشاركين فيها إذا وقع أي تجاوز أو اشتباك محتمل على الحدود؟
• لماذا لا يُعلَن بشفافية عن مصادر تمويل هذه القافلة، خاصة أن زورق “Madleen” البحري أعلن أنه تم تنظيمه ضمن Freedom Flotilla Coalition، وهي شبكة تضامنية تلقت تبرعات من أوساط أوروبية؟
• هل يُسمح لأي طرف، حتى وإن كان بأهداف إنسانية، أن يُلزم دولة ذات سيادة بأن تفتح حدودها بناءً على مشاعر لا إجراءات؟ أعطوني أمثلة حدثت حتي من الدول المشاركة في المغرب العربي، إن كانت الإجابة نعم.

مصر دولة ذات سيادة، وقد قالها دونالد ترامب نفسه صراحة عندما سُئل لماذا استُثنيت مصر من قرارات حظر الدخول للولايات المتحدة، فأجاب: “مصر دولة تُسيطر على موقفها.” أي أنها ليست ساحة مفتوحة أو دولة مستباحة.

ومع تثمين كل المبادرات الشعبية والإنسانية، لكن لا يمكن أن نتجاوز حق الدولة في حماية قرارها، ولا يجوز أن نُحمّل مصر كل مسؤوليات هذا الصراع التاريخي، وكأنها هي الطرف الذي يصنع الحصار أو يمتلك مفاتيح الحل.

قافلة “الصمود” ليست هي الحدث… بل ما أشعلها، فالرسائل الرمزية قد تهز الضمير الإنساني، لكنها لا تُطفئ النار. 
والتهدئة لا تكون بإشعال الحدود، ولا بتحدي سيادة مصر على أراضيها، بل بإعادة فتح ملف القضية الفلسطينية بجديّة، ووقف التعامل معها كمجرد أزمة متكررة في نشرة الأخبار.

تم نسخ الرابط