من سُنن التاريخ أن اكتشافات كثيرة كانت في الأساس من أجل الإنسانية لكن سرعان ما تحولت إلى أداة حرب أو وسيلة فعالة في القتال والمعارك، ولعل أشهر مثال هو الديناميت الذي لم يكن أكثر من اختراع لخدمة الناس فتحول إلى آلة للفتك ومعنى للدمار.
يمكن تطبيق ذلك على الذكاء الاصطناعي أيضًا، ففي الأساس جاء الذكاء الاصطناعي من اجل تسهيل حياة الناس ورفاهية المجتمع لكن كالعادة أيضًا لم يسلم من استخدامه في الحرب، هذا ما أكدته الصين خلال الأيام الماضية حين كشفت عن نظام جديد يعتمد على الذكاء الاصطناعي قادر على التمييز بدقة بين الرؤوس النووية الحقيقية والمزيفة.
وبحسب البيان الرسمي فإن هذا النظام يعد أول حل من نوعه في مجال التحقق من الأسلحة النووية، وقد ظهر من خلال ورقة بحثية في معهد الصين للطاقة الذرية (CIAE)، التابع للمؤسسة الصينية الوطنية للطاقة النووية (CNNC)، وأثار هذا الابتكار جدلا واسعا حول تزايد الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في إدارة أسلحة الدمار الشامل ومستقبل الرقابة النووية.
وبحسب الدراسة، يستند هذا المشروع إلى بروتوكول تحقق مشترك اقترحه علماء من الصين والولايات المتحدة قبل أكثر من عشر سنوات، لكنه واجه عقبات عديدة حالت دون تطبيقه عمليا، وتعود أسباب هذا التأخير، وفقا للباحثين، إلى صعوبة تدريب واختبار الذكاء الاصطناعي باستخدام بيانات حساسة تتعلق بالرؤوس الحربية النووية، بالإضافة إلى صعوبات في إقناع القيادات العسكرية الصينية بأن النظام لا يشكل خطرا على الأمن القومي. كما أبدت بعض الدول، مثل الولايات المتحدة، شكوكا تجاه هذا الاختراع.
وتكمن قوة هذا النظام، حسب الباحثين، في قدرته على تقييم قدرة الرأس الحربي على إحداث تفاعل نووي تسلسلي، وهو جوهر أي سلاح نووي، دون الحاجة إلى الكشف عن تفاصيل تصميمه. فالذكاء الاصطناعي المستخدم لا يعرف شيئا عن شكل الرأس أو هندسته، لكنه يستطيع التحقق من أصالته من خلال إشارات إشعاعية جزئية، يتم إخفاء جزء منها عمدا.
ما أعلنته الصين يمكن اعتباره تكملة للسنوات الماضية، ففي 2023 عقدت قمة بين الرئيس الامريكي السابق جو بايدن والرئيس الصيني شي جين بينغ، وتناولت القمة موضوعات مثل حظر الأسلحة الفتاكة ذاتية التحكم، ولم تثمر القمة عن اتفاق لكن خبراء تقنية مثل رئيس جوجل السابق إريك شميت، أكد أن بكين تستثمر بشكل هائل في الذكاء الاصطناعي وذلك لن ينتج فقط قوة مهيمنة اقتصاديًا بل وعسكريًا أيضًا.
وبشكل مفصل، فإن جميع أنواع الأسلحة سواء روبوتات أو طائرات مسيرة أو طوربيدات، يمكن أن تتحول إلى انظمة ذاتية التشغيل بفضل أجهزة استشعار متطورة تحكمها خوارزميات بالذكاء الاصطناعي تسمح للكمبيوتر بالرؤية، وهذا لا يعني أن تلك الأسلحة ستعمل من تلقاء نفسه وفقًا لـ"سيتورت راسل" أستاذ علوم الحواسيب في جامعة كاليفورنيا بيركلي، لكن بالتأكيد هي قادرة على تحديد مواقع الأهداف البشرية واختيارها ومهاجمتها أو الأهداف التي يوجد بداخلها بشر دون أي تدخل بشري.
تدخل الذكاء الاصطناعي يمكن لمسه بشكل أكبر في الطائرات المسيرة التي أثبتت فعاليتها في الحرب الروسية الأوكرانية، بجانب الأسلحة ذاتية التحكم التي تتمتع بمزايا عديدة تجعلها أكثر كفاءة خاصة أن إنتاجها يتكلف أقل وتغني عن المشاعر الإنسانية الصعبة مثل الخوف أو الغضب في ساحة المعركة.
أضف إلى ذلك الغواصات والقوارب والطائرات القادرة على العمل بشكل مستقل أن تشكل دفعة كبيرة لأنشطة الاستطلاع والمراقبة والدعم اللوجستي في البيئات النائية أو الخطرة، وهو ما دفع وزارة الدفاع الأمريكية أن تنظم برنامج "ريبليكتور" لمواجهة التفوق الصين، وهو برنامج يهدف إلى عدة آلاف من الأنظمة الرخيصة وسهلة الاستبدال في وقت قصير في مختلف المجالات من البحرية وحتى الفضاء الخارجي.
وإن كان هذا هو الدور المباشر للذكاء الاصطناعي في الأسلحة، فهناك دور آخر لا يقل أهمية وهو ما يتعلق بإمداد المخططين البشريين بالخطط والمعلومات والبيانات اللازمة بفضل الأقمار الصناعية والرادارات وأجهزة الاستشعار وأجهزة الاستخبارات، وبنص تعبير إلكسندر وانغ رئيس شركة SCALE AI فإن البيانات هي الذخيرة في الوقت الحالي، موضحًا أن أمريكا تملك أكبر أسطول من الأجهزة العسكرية في العالم ويولد هذا الأسطول 22 تيرابايت من البيانات يوميًا ومن خلال الذكاء الاصطناعي يمكن تحليل تلك البيانات عندما يتعلق الأمر بالاستخدام العسكري.
في المحصلة، نحن أمام ذكاء اصطناعي قادر على أن يتولى الحرب بنفسه دون تدخل بشري، وقادر على مساعدة البشريين في التخطيط للحرب من خلال البيانات، وأخيرًا بات قادرًا على تمييز الرؤوس النووية الحقيقية من المزيفة، ومازال الطريق مفتوح لمزيد من الأدوار !