يُعَدّ الحوار بين أتباع الأديان أحد المسارات الحيوية في العصر الحديث لتعزيز التفاهم الإنساني، وبناء جسور التواصل بين الشعوب والثقافات، في عالمنا الذي يشهد تزايدًا في التشابك والتعقيد، وتفاقمًا في النزاعات الناتجة عن الحروب والإرهاب، وتطرّفًا في طغيان البشر على البشر، وتهورًا في طغيان البشر على البيئة. وهي كلها ظواهر أفرزت موجات واسعة من القتلى واللاجئين والنازحين... في مشهد يتنافى ليس مع القيم الدينية فحسب، بل أيضًا مع ما تروّج له وسائل الإعلام الغربية من شعارات رنانة حول عصر التكنولوجيا، وحقوق الإنسان، والكرامة الإنسانية.
ومع تزايد الزخم العالمي تجاه قضية الحوار الديني، وما يشهده من اهتمام متنامٍ تُجسّده المؤتمرات الدولية، وورش العمل، والمراكز البحثية المتخصصة، تبرز الحاجة إلى إعادة طرح عدة تساؤلات جوهرية حول هذا المفهوم: ما هو الحوار بين أتباع الأديان؟ وما طبيعته وأهدافه؟ وما الشروط الكفيلة بإنجاحه؟ وما أبرز التحديات التي تعيق فاعليته؟ ثم ما آفاقه في تحقيق سلام عالمي قائم على الاحترام المتبادل، وقبول التعددية الثقافية، وتكامل التنوع الثقافي والديني؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات المحورية، ارتأيت أن أُسهم في تناول قضية الحوار بين أتباع الأديان من خلال سلسلة من المقالات، تهدف إلى استقصاء أبعادها النظرية والتطبيقية. وتأتي البداية بتقديم تعريف لهذا المصطلح، بما يتيح الوقوف على دلالاته الدقيقة، وسياقاته الفكرية والدينية، مبتعدًا قدر الإمكان عن التعريفات التي تتطلبها الدراسات الأكاديمية، مراعاةً للغة الصحافة ومواقع التواصل، لعلّ مقالاتي تلفت أنظار الشباب، وتسهم في تعريفهم بهذه القضية المهمة التي كثيرًا ما استغلتها التنظيمات المتطرفة شرقًا وغربًا.
وقبل أن أشرع في تعريف الحوار بين أتباع الأديان، أودّ أن أُلفت النظر إلى أن الحوار المثمر الراقي والعلاقات الطيبة بين أتباع الأديان لا تعني الخلط بين الأديان أو إذابة الفوارق بين العقائد والمِلَل والنِّحَل؛ فلكل دينٍ عقائده وخصوصيته، وأتباعه الذين يؤمنون به، ويعتبرونه جزءًا من تكوينهم الثقافي والإنساني والروحي. وكما قال البابا تواضروس: "ليست الأديان كالألوان يمكن أن نغيّرها كما نشاء، هذا شيء لا يتناسب مع فكرة الدين، وهذا مرفوض تمامًا وغير مقبول".
وقد رفض فكرة الدمج فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وقال: "تبدو في ظاهر أمرها كأنها تدعو للاجتماع الإنساني وتوحيده، والقضاء على أسباب نزاعاته وصراعاته، إلا أنها، هي نفسها، دعوة إلى مصادرة حريات الاعتقاد والإيمان والاختيار".
وفي كتابه المسمى "الحوار الإسلامي المسيحي" يعرّف الدكتور "يوسف الحسن" الحوار بين أتباع الإسلام والمسيحية قائلًا: "ونعني بالحوار أن يتبادل المتحاورون من أهل الديانتين، الأفكار والحقائق والمعلومات والخبرات، التي تزيد من معرفة كل فريق بالآخر بطريقة موضوعية، تبين ما قد يكون بينهما من تلاق أو اختلاف، مع احتفاظ كل طرف بمعتقداته، في جو من الاحترام المتبادل والمعاملة بالتي هي أحسن بعيدًا عن نوازع التشكيك ومقاصد التجريح، بل ما يرجى منه هو إشاعة المودة وروح المسالمة والتفاهم والوثام، والتعاون فيما يقع التوافق فيه من أعمال النفع العام للبشرية ."
ويوضح هذا التعريف أن الحوار هدفه التعارف، لا التنظير حول صحة العقائد، وزيادة معرفة كل طرفٍ بالآخر في مناخ يسوده الاحترام، لا التقارب الذي يؤدي إلى الخلط بين العقائد. كما يوضح التعريف أيضًا أن الحوار وسيلة لها أهداف، منها التعاون لما فيه نفع البشرية، وهو ما قد ينتج عنه مبادرات مشتركة تُفضي إلى مزيد من التسامح، وترسيخ فكرة التعامل مع الإنسان باعتباره أفضل مخلوقات الله على الأرض، أيًّا كان معتقده أو لونه أو جنسه.
وفي عصرنا الراهن، أصبح الحوار ضرورة عصرية للتغلب على المخاطر التي يتعرض لها كوكب الأرض. فلا شك أن قضية التغيرات المناخية -على سبيل المثال لا الحصر- تحتاج إلى حوار مثمر بين القادة الدينيين، للاتفاق على مسار يسلكونه في توعية الناس بمخاطر هذه القضية، وتعريفهم بأنها ليست مسؤولية القادة والنخبة فقط، بل مسؤولية كل فرد على كوكب الأرض. وهذا لن يتحقق إلا عن طريق الحوار المسؤول، النابع من دعاة سلامٍ يؤمنون بالحوار وينتهجونه فيما بينهم، أو كما قال "هانز كينغ" في كتابه "مشروع أخلاقي عالمي: دور الديانات في السلام العالمي": "لا سلام للعالم بدون سلام ديني."