هل تنجح "منصة اسطنبول" في تفكيك الأزمة الأوكرانية؟

استضافت مدينة اسطنبول في 2 يونيو 2025 الجولة الثانية من المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، والتي أسفرت عن توقيع اتفاق برعاية تركية يتضمن تبادل مزيد من أسرى الحرب بين البلدين. ورغم أن منصة اسطنبول لم تصل إلى اتفاق بشأن وقف إطلاق النار، حيث أن الوصول إلى تسوية شاملة يتطلب معالجة العديد من الملفات الخلافية بين طرفي النزاع، إلا أن أنقرة تسعى وفقاً لتصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان إلى جولة جديدة تجمع الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وذلك بهدف حسم الأزمة ووقف الحرب.
ووفقًا لدراسة أعدها مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تعكس التحركات التركية في هذا الملف رغبة أنقرة في دعم موقعها كوسيط فاعل في الصراعات المزمنة، ففي رؤيتها، فإن دور الوسيط يزيد من أهميتها وتأثير الأدوار التي تمارسها وأوراق قوتها في إدارة العلاقات مع الدول الغربية عموماً والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.
دلالات لافتة
يكشف اختيار اسطنبول كمركز للتفاوض بين موسكو وكييف عن عدة دلالات مهمة، يتمثل أبرزها في ثقة القوى الدولية في تركيا كوسيط محايد، وتجلى ذلك في تصريحات السفير الأمريكي لدى أنقرة توم باراك، في 3 يونيو الجاري، حيث قال: "إن تركيا وسيط مهم في إقامة الحوار بين روسيا وأوكرانيا لإنهاء الحرب بينهما"، وأضاف: "أعتقد أن تركيا تلعب دوراً محورياً، ولها علاقة تقليدية مع كل من روسيا وأوكرانيا، وهذا يسمح لها بأن تكون وسيطاً مهماً في إقامة حوار على الأقل". ووفقاً للعديد من التقديرات، فإن القبول الغربي بالوساطة التركية يعود، في جانب منه، إلى تأييد أنقرة مبادرة ترامب لإنهاء الحرب فضلاً عن أنها، في رؤية الدول الأوروبية، تمثل الوسيط الأكثر موثوقية في هذه المرحلة.
في المقابل، ومنذ اندلاع الحرب في 24 فبراير 2022، تبنت أنقرة سياسة الحياد الإيجابي من خلال الإبقاء على العلاقات الدبلوماسية مع طرفي الصراع، والتأكيد على دبلوماسية الحوار، وبدا ذلك في توظيف خبراتها وتجاربها بالوساطة لدعم التسوية السياسية للأزمة. وبينما رفضت المشاركة في العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، فقد قدمت دعماً عسكريا غير مباشر للحكومة الأوكرانية، كما رفضت الاعتراف بانضمام شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس الأوكرانية إلى روسيا.
أبعاد حاكمة
تعول تركيا في التوقيت الحالي على توظيف دبلوماسية الوساطة في الأزمة الأوكرانية لتحقيق جملة من الأهداف، والتي يمكن بيانها على النحو التالي:
1- تعزيز موقع أنقرة على الساحة الدولية: في رؤية أنقرة، فإن ممارسة دور الوسيط في الأزمة الأوكرانية التي تنعكس تطوراتها على التفاعلات العالمية، يمكن أن تعزز في التوقيت الحالي من مكانتها الدولية، مستفيدة من الدعم الأمريكي والأوروبي لتحركاتها الأخيرة تجاه طرفي الصراع، وهو ما يسمح بإعادة تموضع الدور التركي عالمياً.
وإلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، فقد عبّرت الأمم المتحدة عن تثمينها للتحركات التركية حيال الأزمة الأوكرانية، حيث أشادت في 2 يونيو الحالي بمخرجات منصة اسطنبول بشأن تبادل الأسرى بين موسكو وكييف، واعتبرت أن هذه الخطوات تُعد إيجابية في سياق الأزمة المستمرة. ومن ثم يبدو أن أنقرة تحاول عبر الانخراط الدبلوماسي في الأزمة الأوكرانية تأمين القدرات اللازمة للحفاظ على سياسة التوازن مع الشركاء الإقليميين والدوليين، وكذلك إعادة بناء صورتها الذهنية باعتبارها داعم للسلام العالمي.
2- احتواء الاضطرابات الأمنية في البحر الأسود: لا تنفصل رعاية تركيا للمفاوضات المباشرة بين موسكو وكييف عن حسابات أمنية واستراتيجية تثير قلقها، إذ أن استمرار الحرب ينعكس سلباً على أمن البحر الأسود، ما يعنى استمرار تصاعد المخاطر التي تهدد طرق التجارة والطاقة الحيوية لأنقرة بجانب الارتدادات العكسية على الاقتصاد التركي. وبالتالي، فإن تفكيك الأزمة الأوكرانية يعني، في رؤية تركيا، تعزيز حالة الاستقرار في الفضاء الجيواستراتيجي لمنطقة البحر الأسود ذات الأهمية الحيوية لمسارات نقل إمدادات الطاقة والتجارة.
3- تفكيك القضايا الخلافية مع واشنطن: تسعى أنقرة لتوظيف استضافتها اللقاءات المباشرة بين موسكو وكييف إلى التأكيد على مركزية دورها بالنسبة للأمن الأمريكي، وأهمية موقعها في استراتيجية إدارة ترامب التي تسعى لإنهاء الحرب الأوكرانية. وعلى ضوء ذلك، تراهن تركيا على أن تبنيها موقفاً داعماً لتسوية الأزمة الأوكرانية ومتماهياً مع سياسات ترامب سيؤدي لتحسين علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية وحل خلافاتها معها، والتي يأتي على رأسها استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات "إف-35" بالإضافة إلى تسريع وتيرة تمرير صفقة شراء 40 مقاتلة أمريكية جديدة من طراز "إف-16" المتقدمة، إلى جانب دفع الولايات المتحدة الأمريكية لدعم التحركات التركية في سوريا من جهة، ومن جهة أخرى توظيف نجاحات الدور كوسيط في الحرب الأوكرانية كورقة رابحة لإقناع واشنطن بالتخلي نهائياً عن دعم قوات سوريا الديمقراطية "قسد".
4- تحييد الضغوط الأوروبية المستمرة: تعى أنقرة أن الوساطة في الأزمة الأوكرانية يمكن أن تمثل ورقة رابحة في تحييد الضغوط الأوروبية المفروضة عليها في الملفات الشائكة، وخاصة الأوضاع الحقوقية، والانتقادت الأوروبية للسياسات التركية تجاه الملف الكردي، فضلاً عن اشتراطات الاتحاد لانضمام تركيا لعضويته.
وفي رؤية تركيا، فإن إدارة ترامب رغم توتر علاقاتها مع روسيا، إلا أن ذلك لا يمنعها من عدم استبعاد إمكانية إبرام صفقة مع الأخيرة تتخطى الأوروبيين. وعلاوة على ذلك، فإن تطورات الإقليم، ونجاح أنقرة في ترسيخ نفوذها في سوريا ما بعد الأسد، بالإضافة إلى التوتر الحاصل في العلاقات الأوروبية-الإسرائيلية، كل ذلك لا يوفر خيارات متعددة أمام أوروبا، على نحو قد يدفعها إلى تبني نهج جديد تجاه تركيا، خاصة وأن الأخيرة تقود ثاني أكبر جيش داخل حلف شمال الأطلسي. وفي غياب الدعم الأمريكي للرؤية الأوروبية تجاه أوكرانيا، فإن الدول الأوروبية لا يمكن لها تحييد مخاطر روسيا بشكل فعال من دون تعاون أوثق مع أنقرة.
5- دعم العلاقات مع موسكو: ترتبط أنقرة مع موسكو بمصالح استراتيجية، على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية. فتركيا تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي لسد احتياجاتها من الطاقة، وتخشى من حدوث اضطرابات في الإمدادات الروسية. كما تمثل روسيا نقطة استناد استراتيجية للسياحة التركية، بالإضافة إلى أن روسيا تعتبر سوقاً مهماً للمنتجات الزراعية التركية. وبالتالي، فإن رعاية المفاوضات المباشرة بين كييف وموسكو قد تساهم في تأمين المصالح التركية مع روسيا، وخاصة فيما يتعلق بتعزيز التنسيق القائم بين البلدين في مناطق الصراعات، ومنها سوريا وليبيا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى.
6- تقليص حدة الانتقادات الداخلية: تأتي اجتماعات منصة اسطنبول في ظل تصاعد حدة الاستقطاب السياسي في الداخل التركي على خلفية توقيف العشرات من المحسوبين على المعارضة بتهم فساد، ومن بينهم رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو. كما تتزامن جهود الوساطة التركية مع استمرار التراجع الحاصل في مؤشرات الاقتصاد، الأمر الذي دفع العديد من الأصوات في الداخل التركي إلى المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة، ومن ثم تمثل رعاية المفاوضات المباشرة بين موسكو وكييف فرصة مواتية للرئيس أردوغان من أجل تجاوز إخفاقات الداخل، أو على الأقل محاولة بناء رصيد سياسي جديد يُمكن استثماره في قطع الطريق على الحضور المتزايد لخصومه المحليين.
تحديات الوساطة
رغم نجاح أنقرة، نسبياً، في تقليص حدة الخلافات بين موسكو وكييف في اسطنبول، إلا أن نجاح جهود الوساطة لا يزال يواجه تحديات عديدة منها:
1- تراجع التفاهمات بين موسكو وواشنطن: وهو ما ظهر في تحول خطاب الرئيس الأمريكي تجاه نظيره الروسي، حيث حرص ترامب على توجيه انتقادات حادة لبوتين في 27 مايو الفائت، وسبق أن أبدى استياءً إزاء قيام الجيش الروسي في 25 من الشهر نفسه بشن هجوم جوي على أوكرانيا؛ حيث أطلقت موسكو نحو 365 طائرة بدون طيار و9 صواريخ كروز على عشرات المدن الأوكرانية، منها العاصمة كييف. وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين موسكو وواشنطن دخلت مرحلة جديدة من التصعيد، على خلفية توجيه تقرير وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، المتعلق بتقييم التهديدات العالمية، والصادر في 21 مايو الفائت، اتهامات لروسيا بتطوير قدرات نووية جديدة، من خلال توظيف صواريخ جو–جو مزودة برؤوس نووية، بالإضافة إلى أنظمة نووية حديثة أخرى.
2- تصاعد عسكرة الأزمة الأوكرانية: وفقاً للعديد من التقديرات، يصر طرفا الأزمة على أولوية القوة الصلبة في حسم النزاع، لا سيما بعد نجاح كييف، في مطلع يونيو الحالي، في شن هجوم واسع النطاق داخل العمق الروسي، أسفر عن تدمير أكثر من 40 مقاتلة استراتيجية روسية فضلاً عن تدمير جانب معتبر من قدرات قاعدة عسكرية في سيبيريا، وهو ما أثار غضب موسكو التي توعدت، بعد ذلك بيومين، بالرد، وأكدت أن "الانتقام حتمي لا مفر منه".
3- غياب الثقة بين طرفى الصراع: تمثل الشكوك المتبادلة بين موسكو وكييف أحد أهم تحديات نجاح الوساطة التركية، وهو ما يظهر في الشروط والشروط المضادة التي يطرحها الطرفان. فبينما تؤكد الأخيرة إصرارها على انسحاب كامل للقوات الروسية من أراضيها وضمانات أمنية ملموسة من قبل الغرب، من بينها حماية حلف شمال الأطلسي أو وجود قوات غربية على الأرض، فإن موسكو تطالب بـانسحاب كامل للقوات الأوكرانية من دونيتسك ولوغانسك المحتلتين جزئياً، إضافة إلى زابوريجيا وخيرسون جنوب البلاد، كشرط لبدء وقف إطلاق النار الشامل، كما تتضمن الشروط الروسية أيضاً "الاعتراف القانوني الدولي" بهذه المناطق بجانب القرم كأراضٍ روسية، إضافة إلى منع كييف من الانضمام لعضوية "الناتو".
4- عودة الدعم العسكري الأوروبي لكييف: أعلنت بعض الدول الأوروبية عن تقديم مزيد من الدعم العسكري لكييف خلال المرحلة المقبلة، فبينما تعهد المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرتس بمساعدة كييف على إنتاج صواريخ طويلة المدى للدفاع عن نفسها ضد الهجوم الروسي، أعلنت بريطانيا عن تقديم مساعدات مالية بقيمة 407 مليون استرليني ضمن حزمة إجمالية قدرها 4.5 مليار جنيه استرليني مقدمة لأوكرانيا خلال عام 2025. وقد أثارت هذه السياسات الأوروبية استياء موسكو، حيث حذر المتحدث باسم الكرملين في 26 مايو الفائت، من أن أي قرار أوروبي يمنح أوكرانيا إمكانيات محسّنة لشن ضربات صاروخية بعيدة المدى يُعد تصعيداً"خطيراً جداً، ويقوّض الجهود الرامية إلى التوصل لتسوية سياسية للنزاع.
ختاماً، يمكن القول إن المرحلة المقبلة قد تشهد تعويلاً على الوساطة التركية بشأن إمكانية الوصول إلى تسوية للأزمة الأوكرانية، خاصة في ظل التوتر الحاصل بين ترامب وبوتين فضلاً عن تراجع الدور الأوروبي. وهنا، يمكن فهم حرص تركيا في التوقيت الحالي على تكثيف جهودها تجاه الأزمة الأوكرانية، إذ ترى أنقرة أن دورها كوسيط يمثل مدخلاً مهماً سواء لدعم مكانتها الدولية أو على الأقل توظيفها كورقة رابحة لتعزيز الموقع الداخلي للرئيس. بيد أن قدرة الوسيط التركي على تحقيق اختراق جذري في الأزمة تظل مرهونة بمدى تماهي أنقرة مع مطالب موسكو، لا سيما فيما يتعلق بالاعتراف بسيادتها على القرم ومدن أوكرانية أخرى، وكذلك بمدى القدرة على معالجة امتعاض كييف من عدم انضمام أنقرة إلى العقوبات المفروضة على موسكو، فضلاً عن القلق الأوكراني إزاء العلاقات الاستراتيجية القوية التي تؤسسها تركيا وروسيا.