الحج ليس مجرد رحلة مكانية من أرضٍ إلى أرض، بل هو سفرٌ روحي تُخلع فيه الدنيا عن القلب كما تُخلع الثياب عن الجسد عند الإحرام. هو ارتحالٌ من ضيق النفس إلى فسحة الرضا، ومن هوس التفاصيل اليومية إلى سكينة اللقاء مع الله.
حين يُلبّي الحاج في الميقات، يعلن انعتاقه من قيود الزمان والمكان. "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ"، ليست كلمات تردّدها الشفاه فقط، بل رجعُ صدى الأرواح التي اشتاقت إلى وجه الله، إلى رحمته، إلى بيته العتيق.
يقول الله تعالى:
﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].
يمضي الحجيج إلى مكة، يطوفون بالبيت العتيق كأنهم أقمارٌ تدور حول شمسٍ واحدة. تسري في الجسد قشعريرة حين تُلامس الأنفاس هواء المكان، كأن الكعبة ليست حجرًا وشكلاً، بل هي قلبٌ نابض بحب الله، يجتذب القلوب من مشارق الأرض ومغاربها.
لكن الحكاية الأعمق تُكتب في عرفات. ذلك اليوم الذي تتوقف فيه الدنيا الفانية، وتسكن فيه الأرواح، ويقف الناس صفًا واحدًا في مشهدٍ إنساني مهيب تتساوى فيه الأجساد، وتتكشف فيه القلوب، وتذوب فيه الفوارق، فلا لون ولا جنسية ولا مرتبة، بل وحدة روح في حضرة الواحد الأحد.
في يوم عرفة، يفيض الله على عباده من بحر كرمه ما لا يفيضه في سواه. تذوب الحواجز بين العبد وربه، وتعلو الأكف بالدعاء، وتُغسل الذنوب بدموع التوبة. هناك، في تلك البقعة من الأرض التي تغطى ببياض الإحرام، لا شيء يُسمع إلا الهمسات، ولا شيء يُرى إلا وجوهًا غارقة في الرجاء والخشوع.
وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ما من يومٍ أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟" [رواه مسلم].
الوقوف بعرفة ليس وقوف جسدٍ في مكان، بل هو وقوف القلب في حضرة الله. لحظةٌ يخلع فيها العبد عن نفسه كل ما سواه، ويتضرع بكل ما فيه من ألمٍ وأمل. يُعيد ترتيب نفسه، ويبوح بما عجز عن قوله في ليالي الوحدة، ويسأل، ويبكي، ويتطهّر.
وإذا غربت شمس عرفة، وغادر الحجيج إلى مزدلفة، حملوا معهم ما لا يُرى بالعين: حملوا غفرانًا وسكينة، وعهدًا جديدًا بالعودة إلى الله أنقى وأقرب.
الحج هو زمن المصالحة مع النفس، وإصلاح ذات البين مع الله، والعودة إلى أصل الطهر.
يقول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
الحج هو عودة... لكن إلى أين؟
إلى الفطرة، إلى الصفاء، إلى الروح الربانية التي نُفخت في أبينا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة وأتم التسليم، إلى النور المحمدي الذي يسري في قلوب المؤمنين المحبين، المشتاقين إلى خاتم الأنبياء والمرسلين.
فالحج هو مدرسةٌ في التواضع، ودرسٌ في المحبة، وموسمٌ تُروى فيه الأرواح بعد طول ظمأ.
هو وعدٌ بأن كل من قصد الله بصدق، سيبلّغه إليه، مهما كانت خطاياه، ومهما طال التيه.
وهكذا يعود الحاج من رحلته وقد تعلّم أن الله أقرب، وأن الفطرة أنقى، وأن الرجوع إليه سبحانه هو الغاية، وهو البداية.