اغتيال “الككلي”: مؤشر خطر يعمق الأزمة الأمنية والسياسية في ليبيا

شهدت عاصمة ليبيا طرابلس في 12 مايو عام 2025 اشتباكات عنيفة بعد مقتل رئيس “جهاز دعم الاستقرار” “عبد الغني الككلي”، الشهير بـ “غنيوة” على يد فصائل متحالفة مع رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية “عبد الحميد الدبيبة”؛ إذ أطلق “اللواء 444” التابع لوزارة الدفاع عملية عسكرية استهدفت “جهاز دعم الاستقرار”، ورغم محاولة حكومة “الدبيبة” استغلال الأحداث لتعزيز قبضتها الأمنية، فإن الخطوة جاءت بنتائج عكسية؛ حيث خرج المئات إلى الشوارع للمطالبة برحيل “الدبيبة”، كما أعقب ذلك سلسلة من الاستقالات المتتالية من الحكومة، إلى جانب ذلك، قرر مجلس النواب الليبي تشكيل حكومة جديدة؛ الأمر الذي يدفعنا للتساؤل حول الاشتباكات الأخيرة في طرابلس ودلالاتها والوضع قبل اغتيال “الككلي”.
من هو “الككلي” وماذا حدث؟
ووفقًا لدراسة أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، كان “الككلي” يتمتع بنفوذ قوي في العاصمة الليبية، فعقب عام 2011، أسس كتيبة “حماية بو سليم”، وقد تم دمج مجموعته في الهيكل الأمني للدولة، لكن “غنيوة” لم يخضع فعليًا للقيادة الرسمية، وسرعان ما توسعت الكتيبة مدعومة بأسلحة تم الاستيلاء عليها من مستودعات نظام “معمر القذافي” بعد انهياره.
ومع الوقت، أُعيد تشكيل الكتيبة تحت عناوين مختلفة، وصولًا إلى “جهاز دعم الاستقرار” الذي حظي بشرعية رسمية بقرار من حكومة “الوفاق الوطني السابقة”، بقيادة “فايز السراج”. وبعد رحيل “السراج” في عام 2021، تقرب “الككلي” من رئيس الحكومة الجديد “الدبيبة” وتفاهما على أن يسمح له رئيس الحكومة بتعيين حلفائه في مناصب استراتيجية، مقابل أن يقدم له “غنيوة” الحماية والدعم في طرابلس.
بيد أن في الأشهر الأخيرة، تدهورت العلاقات بين “الدبيبة” و”الككلي” بسبب مطالبات الأخير المستمرة بالحصول على المزيد من المناصب الاستراتيجية لحلفائه، كما اتسع نفوذ “جهاز دعم الاستقرار” وتحول إلى سلطة موازية تهدد سلطة الدولة.
ولعل الأمر الذي فجر الأحداث في ليبيا، هو اقتحام عناصر من “جهاز دعم الاستقرار” شركة الاتصالات القابضة، المؤسسة المملوكة للدولة، وتم اختطاف رئيس مجلس إدارتها ونائبه، في محاولة للسيطرة على المؤسسة. وعلى إثر ذلك، استُدعي “غنيوة” لاجتماع عاجل في 12 مايو عام 2025 داخل معسكر “التكبالي” من أجل منع تطور الخلاف؛ حيث حضر بالفعل مع مرافقيه، وحضر من جانب الحكومة وزير الداخلية، “عماد الطرابلسي”، وقائد اللواء 444 “محمود حمزة”، ووكيل وزارة الدفاع، “عبد السلام الزوبي”، ومجموعة تمثل القوة المشتركة التي يرأسها “عمر بوغدادة”. وخلال الاجتماع أكدت المصادر أن النقاش احتد بين الطرفين؛ مما أدى إلى تبادل إطلاق النار. وأسفر الاشتباك عن مقتل “الككلي” وعدد من حراسه، إضافة إلى عنصر من لواء 444، وآخر من عناصر القوة المشتركة.
دلالات الاشتباكات الأخيرة
أبرزت الاشتباكات الأخيرة التي شهدتها العاصمة طرابلس عددًا من الدلالات، وهو ما سنتطرق إليه في الفقرات التالية:
طرابلس معقل للمليشيات: تختفي المعارك عامًا أو عامين في ليبيا لكنها سرعان ما تعود أشد، لتوضح أن الكلمة العليا في ليبيا للسلاح، معرقلةً بذلك كافة الجهود الأممية والدولية الرامية لحلحلة الأمة الليبية. وفي هذا الصدد، تُعد الاشتباكات المسلحة الأخيرة في طرابلس جزءًا من تصفية الحسابات بين المليشيات الغربية المختلفة في إطار الصراع المستمر في ليبيا على السلطة، إذ أن اغتيال “غنيوة” لا يُعد فقط اغتيالًا لقائد مليشيا بارز، بل يمثل إعادة رسم لخريطة النفوذ الأمني في طرابلس، التي تعتبر معقلًا للمليشيات؛ حيث سعى “الدبيبة” إلى إحكام قبضته على السلطة عبر تحالفات مع مجموعات جديدة، بعد إزاحة أبرز خصومه.
تراجع شرعية “الدبيبة”: كلف البرلمان الليبي النائب العام بفتح تحقيق مع “الدبيبة”، ومنعه من السفر، وتجدر الإشارة إلى أن الاتهامات الموجهة لـ “الدبيبة” لا تقتصر على الفساد فقط، بل تشمل أيضًا تعطيل المسار الانتخابي، وتوظيف المال العام لترسيخ سلطته.
علاوة على ذلك، اعتبر المجلس الأعلى للدولة “أن حكومة الوحدة الوطنية برئاسة “الدبيبة” قد فقدت شرعيتها سياسيًا وقانونيًا وشعبيًا، ولم تعد تمثل إرادة الليبيين، وعليه فإنها تُعد حكومة ساقطة الشرعية ولا يجوز لها الاستمرار في ممارسة مهامها”.
إلى جانب ذلك، أعلن وزراء في حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها “الدبيبة” استقالتهم، ومن بينهم وزير الصحة “رمضان أبو جناح”، ووزير الحكم المحلي “بدر الدين التومي”، ووزير المالية “خالد مبروك”، ووزير الإسكان والتعمير “أبو بكر الغاوي”، ووزير الاقتصاد “محمد الحويج”، ووزير النفط “محمد عون”، بينما نفت حكومة “الدبيبة” ذلك.
كما بدأت قبل نحو أسبوعين موجة مظاهرات مناهضة لحكومة “الدبيبة”؛ حيث شهدت عدة مدن في غرب ليبيا احتجاجات شعبية تطالب بإقالة حكومة “الدبيبة”، على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية والخدمية، ومن ثَمّ الدعوة إلى تغيير جذري في المشهد السياسي.
الدفع نحو مسار سياسي جديد: وجه المجلس الأعلى للدولة خطابًا رسميًا إلى رئيس مجلس النواب للتواصل الفوري مع رئيس المجلس الأعلى للدولة من أجل البدء في إجراءات تكليف شخصية وطنية تتولى مهام رئاسة حكومة مؤقتة. وفي هذا الصدد، دعا رئيس مجلس النواب، “عقيلة صالح” أعضاء المجلس لعقد جلسة رسمية للاستماع إلى برامج جميع المترشحين لرئاسة الحكومة؛ حيث استمع البرلمان الليبي في 27 مايو عام 2025 إلى سبعة مرشحين من بين 14 شخصية تحدثوا عن برامجهم لقيادة البلاد وإجراء انتخابات عامة. وعليه، اندلع خلاف بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب بشأن أحقية أيهما في تكليف حكومة جديدة للبلاد ليبرز بذلك خلاف جديد حول تداخل السلطات في ليبيا.
مصير غامض: على الرغم من الاحتجاجات وتحركات البرلمان الليبي، فإنه، في الوقت الحالي، قد يكون من الصعب الإطاحة بـ “الدبيبة”، لا سيما في ظل اعتراف المجتمع الدولي بحكومة الوحدة الوطنية، والتأكيد على أن إنشاء حكومة جديدة لا ينبغي أن يكون أُحاديًّا، بما في ذلك عدم وجود بديل جاهز لاستلام السلطة في طرابلس.
ومع ذلك، فإن تحركات مجلس النواب الأخيرة قد تؤدي إلى تصعيد أوسع بين المليشيات المسلحة في ليبيا بعد سنوات من الهدوء النسبي، خاصة أنه -في الأغلب- لن يوافق “الدبيبة” على التخلي عن السلطة.
الوضع قبل اغتيال “الككلي”
لم تكن الاشتباكات الأخيرة منفصلة عن حالة الانسداد السياسي في ليبيا؛ الأمر الذي سنوضحه على النحو التالي:
ازدواجية السلطة: تنقسم ليبيا بين حكومتين؛ حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية في غرب ليبيا، ويترأسها رئيس الوزراء “عبد الحميد الدبيبة”، وحكومة الاستقرار الوطني المتمركزة في الشرق، والتي يقودها رئيس الوزراء “أسامة حمد” ويدعمها مجلس النواب والمشير “خليفة حفتر”.
وفي سياق متصل، تواجه ليبيا أزمة في المجلس الأعلى للدولة؛ حيث أُجريت انتخابات لاختيار رئيس جديد للمجلس في أغسطس عام 2024 وفاز “خالد المشري” برئاسة المجلس بفارق صوت على “محمد تكالة”، الرئيس السابق، ورفض الأخير النتائج ولجأ إلى القضاء للطعن في النتيجة، وأصدرت محكمة استئناف جنوب طرابلس الليبية حُكمًا بوقف تنفيذ انتخاب “المشري” رئيسًا للمجلس في سبتمبر عام 2024، وعليه قدم “المشري” استشكالًا في الحكم الصادر.
وفي هذا الصدد، أضاف “تكالة” بُعدًا جديدًا للمشهد في ليبيا بدعوته أعضاء المجلس الأعلى للدولة إلى تشكيل لجنة مشتركة بالمجلس لإجراء انتخابات مبكرة لمكتب الرئاسة في جلسة عامة بحضور جميع الأعضاء، ومنذ إطلاق “تكالة” لمبادرته، تباينت آراء أعضاء المجلس بشأنها.
تداخل الاختصاصات المؤسسية: يوجد انقسامات حادة في ليبيا نتيجة تدخل المؤسسات في شئون بعضها في بعض، وهو ما كان له تداعيات سلبية على جهود حل الأزمة السياسية التي تواجه البلاد؛ الأمر الذي برز بصورة ملحوظة في الآونة الأخيرة؛ حيث أصدر المجلس الرئاسي الليبي عدة قرارات بشكل مفاجئ في شكل مراسيم، في نهاية أبريل الماضي، شملت تعطيل قانون المحكمة الدستورية الصادر عن مجلس النواب وتفعيل مفوضية الاستفتاء الوطني لطرح القوانين على الاستفتاء الشعبي.
وفي هذا الإطار، قال “عقيلة صالح”: إن تنظيم القضاء وإنشاء المحاكم هو اختصاص أصيل للسلطة التشريعية دون سواها، ولا يمكن لأي جهة أخرى إصدار القوانين إلا إذا نص الدستور على إعطاء هذه الصلاحية لرئيس الدولة المنتخب في حالة غياب السلطة التشريعية عند الضرورة.
إلي جانب ذلك، برز خلاف بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب حول رئاسة ديوان المحاسبة؛ حيث رفض الأخير مقترح الأعلى للدولة بشأن تكليف “محمد عون” برئاسة الديوان، وطالب الجهات المختصة بعدم الاعتداد به لمخالفته للقانون والاتفاق السياسي.
مبادرات متناقضة: لا تزال حالة الانقسام السياسي تُخيم على الساحة الليبية؛ حيث عكس التتابع في مبادرات أعضاء المجلس الرئاسي تباين الرؤى حول حلحلة الأزمة السياسية. إذ سُبق وأعلن نائب رئيس المجلس الرئاسي “موسى الكوني” عن رؤيته لنظام حكم اتحادي يعتمد على الأقاليم التاريخية الثلاثة في البلاد: طرابلس، وبرقة، وفزان. وفي هذا الإطار، اقترح انتخاب كل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة رئيسًا يمثله في مجلس رئاسي بالتوازي مع وجود مجلس تشريعي وحكومة لكل إقليم.
بينما أعلن “عبد الله اللافي” عن مبادرة “الحل السياسي: الحوافز والضمانات”؛ حيث اقترح “تقسيم البلاد إلى 13 محافظة وفقًا للدوائر الانتخابية على أن يتم توزيع الميزانية بالتساوي بين هذه المحافظات، التي ستتم إدارتها وفق نظام لا مركزي يمنحها صلاحيات كاملة، بالإضافة إلى تقليص هيكلة الحكومة المركزية، مع تحديد صلاحياتها وتمويلها بشكل محدود”.
فيما اقترح رئيس المجلس الرئاسي “محمد المنفي” الاحتكام إلى استفتاء شعبي حول القضايا الخلافية في القوانين الانتخابية، وفي هذا الإطار، وجه “المنفي”، في نهاية أبريل الماضي، خطابًا إلى رئيس مفوضية الانتخابات “عماد السايح” أمهله فيه 30 يومًا لاتخاذ الإجراءات العملية لتنفيذ الاستفتاء على الدستور.
براجماتية دولية: تخلت تركيا عن تحفظها السابق في التعامل مع الشرق الليبي؛ حيث أعلنت اعتزامها فتح قنصلية جديدة بمدينة بنغازي، وتسيير رحلات طيران مباشرة إليها، وفي تحول تركي لافت تجاه السطلات الشرقية، توجه “صدام حفتر” إلى تركيا في الرابع من أبريل الماضي، والتقى وزير الدفاع التركي “يشار غولر”، بحضور رئيس أركان القوات البرية التركية، الفريق الأول “سلجوق بيراكتار أوغلو”، وشهد اللقاء بحث سبل تعزيز التعاون العسكري بين ليبيا وتركيا، إضافة إلى مناقشة عدد من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
إلى جانب ذلك، انفتحت روسيا على الجانب الغربي؛ حيث أفاد بيان لحكومة الوحدة الوطنية بأن “الدبيبة” تسلم رسالة شفوية من القيادة الروسية نقلها وفد من وزارة الخارجية وصل طرابلس في 28 أبريل الماضي، وترأس الوفد مدير إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية الروسية “ألكسندر كينشاك”، وأضاف البيان أن الرسالة أكدت “أهمية العلاقات الثنائية بين ليبيا وروسيا، وتعزيز التعاون المشترك، مع التأكيد على ضرورة تفعيل اللجنة الليبية الروسية العليا المشتركة”.
علاوة على ذلك، إن قيادات من شرق ليبيا وغربها زاروا الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث زار “الدبيبة” واشنطن بصحبة عدد من مسئولي حكومته لمناقشة تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الطاقة، والاقتصاد، والبنية التحتية. كما قام رئيس أركان القوات البرية لـلقيادة العامة الفريق ركن “صدام حفتر” في نهاية أبريل الماضي بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة، وفي هذا الصدد، التقى “حفتر” مستشار الرئيس الأميركي “مسعد بولس” بحضور نائب مساعد وزير الخارجية “تيم ليندركينغ” والمبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى ليبيا السفير “ريتشارد نورلاند”.
بالإضافة إلى ذلك، تحافظ إيطاليا على حوار نشط مع كل من حكومة طرابلس وسلطات الشرق، فمن ناحية، أجرى رئيس الوزراء “الدبيبة”، في أبريل الماضي، اتصالًا هاتفيًا مع رئيسة مجلس الوزراء الإيطالية، “جورجيا ميلوني”، تناول التعاون في مجال الطاقة واستقرار وسط البحر المتوسط. ومن ناحية أخرى، استقبل قائد قوات القيادة العامة المشير “خليفة حفتر” في بنغازي وفدًا رفيع المستوى من الحكومة الإيطالية برئاسة وزير الداخلية “ماتيو بيانتيدوزي”، ونائب وزير الخارجية “ادموندو تشيريللي”، ورئيس المخابرات الإيطالية الجنرال “جياني كارفيللي” وعددًا من المسئولين بالحكومة الإيطالية في مارس الماضي.
في الختام، إن ما حدث في ليبيا يؤكد أن الاستقرار في البلاد كان هشًّا ومبنيًّا على تقاسم الأطراف السياسية للنفوذ وليس على إصلاحات حقيقية لمؤسسات الدولة؛ حيث يبدو أن الأطراف الليبية يتعمدون عرقلة حلحلة الأزمة السياسية كلما اقتربت البلاد من الخروج من حالة التشرذم السياسي؛ إذ تزامنت الأحداث مع دفع البعثة الأممية نحو إطلاق حوار سياسي للبحث عن حل توافقي، بعيدًا عن الإجراءات الأحادية.
وفي هذا الصدد، تبقى ليبيا على صفيح ساخن، خاصة في ضوء سيطرة المليشيات على الغرب الليبي، فضلًا عن تمسك الأطراف الشرقية والغربية بسلطاتهم والعمل على تعزيز شرعيتهم الدولية عبر الانفتاح على مختلف القوى الإقليمية والدولية التي تتنافس على ليبيا. وعليه، قد تستغل هذه القوى حالة الفوضى لطرح مبادرات سياسية جديدة تتماشى مع مصالحها الاستراتيجية.