عاجل

لم تكن مصر القديمة حضارة حجر وصروح فحسب ، بل كانت حضارة عقل وتأمل ، عرفت كيف تنظر إلى السماء لتفهم الأرض ، واستطاعت أن تربط بين حركة الأجرام السماوية ونظام الحياة اليومية والدينية. ولعل من أبرز العلوم التي بلغ فيها المصريون القدماء منزلة راقية هو علم الفلك الذي شكل لديهم علمًا مقدسًا وجزءًا لا يتجزأ من نظام الكون والحياة.

كان الكهنة فى مصر القديمة هم الفلكيون الأوائل ، وكانت مهمتهم مراقبة السماء وتسجيل الظواهر الفلكية وتحديد المواقيت ، وقد اعتمدوا فى حساباتهم على الرصد العيني المُنتظم لحركة الكواكب والنجوم.

كان من أهم منجزات الفلك فى مصر القديمة هو التقويم الشمسي الذي قسم السنة إلى 12 شهرًا كل منها 30 يومًا ، وأضاف إليه المصريون القدماء 5 أيام تُعرف بـــ "أيام النسئ" لتكتمل السنة بـ365 يومًا. وقد اعتُبر هذا التقويم من أدق الأنظمة فى العصور القديمة وهو الذي استخدم فى تنظيم الزراعة والمواسم والاحتفالات الرسمية.

إن تأثير علم الفلك فى مصر القديمة لم يقتصر على الحسابات الزمنية ، بل امتد إلى تخطيط المعابد والقبور والأهرامات. فقد وُجهت الأهرامات الكبرى ، ولا سيما هرم خوفو بدقة لافتة إلى الجهات الأربع الأصلية ، وارتبطت مداخلها وممراتها بمحاور نجمية. كما بُنيت بعض المعابد مثل معبد "أبو سمبل" بحيث تدخل أشعة الشمس إلى قدس الأقداس مرتين سنويًا فى تواريخ ذات دلالة دينية وفلكية. وهذه الظاهرة التي ما زالت تحدث حتى اليوم تشهد على براعة المصريين فى ربط الفلك بالهندسة والحياة الدينية.

عُثر على نصوص فلكية فى المقابر والمعابد ، ومنها ما يُعرف بـ"ساعات الليل" و"ساعات النهار" ، وهى تُظهر تقسيم الليل والنهار حسب مواقع النجوم. كما ظهرت خريطة نجمية على سقف مقبرة "سننجم" في دير المدينة، وسقف معبد دندرة الذي يُعد من أوائل النماذج المعروفة للزودياك (دائرة الأبراج.(

لقد عبر علم الفلك فى مصر القديمة عن نظرة فلسفية للكون ، حيث اعتُبر أن النظام السماوي انعكاس للنظام الأرضي ، وأن الاتساق بين السماء والأرض يضمن الاستقرار والنظام. ولقد برع المصريون القدماء فى علم الفلك ليس لأنهم طمحوا إلى تفسير السماء فقط ، بل لأنهم سعوا إلى تنظيم الحياة على الأرض. وكان هذا العلم أداة لضبط الزراعة وتوقيت الطقوس وتقدير الزمن وتوجيه المباني ، وربط الإنسان بالكون من حوله. وإذا كانت حضارات اليوم تعتمد على الأقمار الصناعية والتلسكوبات ، فإن حضارة مصر القديمة كانت تعتمد على العين المُجردة والعقل المُنظم ، فى انسجام بديع بين المعرفة والإيمان.

تم نسخ الرابط