التصوف ليس لباسًا ولا طقوسًا ولا كلمات تُقال،
بل هو عروجٌ بالروح إلى معناها الأعلى، وتنزّه عن كل ما يثقلها من حظوظ النفس وميل الهوى.
هو أن تسير إلى الله خاشعًا، متخففًا، بقلبٍ لا يحقد، ولسانٍ لا يجرح، ونفسٍ لا ترى لنفسها فضلًا على أحد.
من رحم المحبة وصدق التوجّه، وُلد التصوف، فكان عبر العصور صمّام أمان للدين في وجه الغلو،
وسدًّا منيعًا أمام التشدد والجمود.
لأنه طريق يُذكّر الناس أن الدين في جوهره خُلُق،
وأن الله لا ينظر إلى الأشكال، بل إلى القلوب،
وأن الطهارة التي يرضاها هي نقاء السريرة، وعدل المعاملة، ورقّة الشعور تجاه الخلق.
ما أحوج الناس إلى هذا النفس في زمنٍ علا فيه صخب الجدل، وغاب فيه الذوق، وانشغل كثيرون بسطح الدين دون لبّه.
يأتي التصوف، لا ليفرض نفسه، بل ليهدهد القلوب، ويعيد ترتيبها على ميزان العدل والمحبة والسكينة.
فهو يُعلّم الإنسان كيف يتهذّب قبل أن يتكلّم، وكيف يرحم قبل أن يحكم، وكيف يرى الله في خلقه لا في انغلاقه.
حين يسود التصوف الحقيقي، تسكن النفوس، وتقلّ الخصومة، ويُرفع الظلم، ويُحتفى بالضعيف، ويُحترم المختلف.
فالمتصوّف لا يحكم على الناس بظواهرهم، بل يسأل نفسه:
كيف أصلح ذاتي؟
كيف أكون رحمةً تمشي على الأرض؟
كيف أكون عبدًا حقًا؟
ومن أعظم ما يثمره التصوف في المجتمع: الأمن الروحي.
ذلك الأمن الذي لا يُصنَع بالسلاح، بل تُنشئه الطمأنينة في القلوب، والسَّعة في الصدور، والرضا بما قسم الله.
فالمتصوّف لا يخشى المستقبل لأنه مؤمن بأن كل شيء بقدر،
ولا يحسد غيره لأن عينه ممتلئة بما عند الله،
ولا يحمل غلًّا لأن قلبه مشغول بذكر الحبيب، لا بعداوة الناس.
وحين ينعم الناس بهذا النوع من الأمن، تقلّ الجرائم، وتُرفع الأحقاد، ويزدهر التعايش،
لأن من يَسلَم قلبه يَسلَم فعله، ومن يسكن في قلبه السلام، يُشيعه من حوله أينما حلّ.
التصوف يُربّي في الإنسان هذا الاتزان النفسي والروحي، فيجعل من قلبه وطنًا للسكينة، ومن بيته ساحة للرضا، ومن عمله رسالة.
إنه يُحرر الناس من سطوة القلق، ويُحرك فيهم الطمأنينة التي لا تُشترى، ويُعيد ترتيب أولوياتهم: فيدركون أن أعظم ما يملكه الإنسان هو قلبٌ آمن بالله، ونفسٌ ساكنة بحبه، وعينٌ راضية بحكمه.
التصوف، بأسلوبه الروحي العميق، حرَس الدين من التسييس، ووقاه من أن يُستعمل سلاحًا في يد الطامعين.
إذ أن المتصوف يرى في الدين عهدًا بين العبد وربه، لا وسيلة للسيطرة أو التفرقة.
لذلك كانت الزوايا الصوفية عبر التاريخ حاضنات للأمن الروحي، وجسورًا للتواصل الإنساني، ومعاقل للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالصراخ ولا بالتكفير.
وفي سير الأولياء، نُبصر رجالًا ونساءً جعلوا من حياتهم نُسُكًا في حب الله وخدمة خلقه.
لم يكن التصوف فيهم انفصالًا عن الحياة، بل اندماجًا فيها من باب الرحمة والتهذيب.
كانوا أطباء الأرواح، وسادة الأخلاق، يمشون بين الناس بقلوب رقيقة، وعيون دامعة، وأيادٍ تُصلح ولا تُفسد.
التصوف لا يعادي العقل، بل يُنقيه من الغرور، ويصالحه مع القلب.
ولا يهجر الدنيا، بل يضعها في موضعها، فلا تطغى على الروح.
هو البُعد الثالث في فهم الدين، حيث تمتزج العقيدة بالشعور، وتتحول المعرفة إلى حال، والسلوك إلى عبادة.
وإن سأل سائل: ما حاجة مجتمع اليوم إلى التصوف؟
فالجواب: لن ينقذنا من الاستعلاء والغلظة والتشظي إلا روحٌ تتذوق اللطافة،
وتعرف ذلّ العبودية، وتعامل الناس بما تحب أن تُعامَل به.
ولن نحمي ديننا من العبث والتوظيف إلا بخطابٍ يسكن القلوب قبل العقول، ويصل إلى الإنسان قبل أن يُدينه.
التصوف ليس حكرًا على أحد، بل طريقٌ مفتوح لكلّ من أراد أن يطهّر قلبه، ويعيش في معية الله وهو بين الناس.
هو وعدٌ دائم أن هناك نورًا لا ينطفئ، وسلامًا لا يُشترى،
وقلبًا يمكن أن يصبح مرآةً للرحمن، متى خَلُص من الأنا، وسار في درب المحبة.
في التصوف، يتعلّم الإنسان أن كل ما عداه فانٍ،وأن البقاء لمن عرف نفسه فتواضع، ولربّه فأحبّ، وللناس فرَحم.
تلك هي الخلاصة: أن تُحبّ الله، وتُحبّ لأجله، وتحبّ به،
فتكون من أهل القلوب النورانية الذين إذا حضروا، حضر السلام.