عاجل

دمية "لابوبو".. تلك الدمية التي أصبحت حديث المشاهير والأولى ضمن قوائم مشترياتهم، حتى أنها احتلت "استوريهات" صفحاتهم الرسمية معبّرين عن فرحتهم باقتنائها. هذا التسابق المحموم من المشاهير لاقتناء الدمية يعبّر بصدق عن أننا أصبحنا في زمن تتداخل فيه الصناعة الثقافية مع التربية، فبرزت دمية "لابوبو" بوصفها رمزًا تخطى كونه لعبة، ليغدو علامة ثقافية تنطوي على دلالات تتجاوز الطفولة، وتطال الوعي الجمعي لكافة الفئات العمرية.
تلك الدُمية، بملامحها الغرائبية وابتسامتها المريبة، استطاعت أن تجذب الأطفال والمراهقين، بل وحتى الكبار، ضمن موجة جمالية تحتفي باللا مألوف والشرير الظريف، ما يثير تساؤلات حول أثر هذه الرموز على الثقافة العربية.
تمثل "لابوبو" تمظهرًا لنمط جمالي يقوم على "النفور الساحر" (أي الانجذاب لما هو مشوّه أو غريب لكنه مثير للاهتمام) أو اللامألوف الجذاب، حيث تمتزج الغرابة بالفتنة، والشر باللعب. هذا النموذج، الذي يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية للجمال والبراءة، يناقض تقاليد اللعب في الثقافة العربية التي طالما ارتبطت بالحنان والفضيلة. قبول هذا الشكل الجمالي يُشير إلى تحوّل في الذائقة الطفولية والجمعية نحو نوع من الافتتان بالمغاير والمربك، ما قد يُفضي إلى تطبيع رموز القسوة أو الشر طالما ظهرت في إطار تسلية.
من منظور علم النفس، فإن التعرّض المتكرر للصور والسلوكيات يخلق نوعًا من الألفة التي تُفضي إلى القبول. وهنا يكمن الخطر في رمزية "لابوبو"؛ إذ يتحوّل حضورها الدائم في الفيديوهات، والإعلانات، والألعاب إلى مصدر طبيعي للمتعة، حتى وإن كانت رسائلها الرمزية تعكس التمرّد، والعدوان، أو السخرية من القيم التقليدية.
في السياق العربي، حيث التربية تتكئ على مرجعيات دينية وأخلاقية راسخة، قد يؤدي هذا التداخل إلى تآكل الحدود بين الخير والشر، وبين اللعب والعنف. ما يُميز دمية "لابوبو" هو تمجيدها للشر الطفولي غير النادم. فهي لا تعتذر، ولا تلتزم بقواعد. هذه الرمزية، حين يتم التفاعل معها بكثافة، قد تُنتج لدى الأطفال والمراهقين نموذجًا سلوكيًا يشرعن التمرد والفوضى بوصفها سِمات محببة. هنا يتجلى الانزلاق من اللعب البريء إلى "الهندسة النفسية" (أي إعادة تشكيل اللاوعي السلوكي عبر أدوات غير ظاهرة)، حيث تُزرع أنماط سلوكية ومفاهيم قيمية قد تُضعف الحس الأخلاقي وتُشجع النزعة الفردانية واللامعيارية (أي رفض القواعد)، في تقاطع مقلق مع ثقافتنا الجماعية.
في المجتمعات العربية، ارتبط اللعب تقليديًّا بوظيفة تربوية: ترسيخ القيم، تنظيم الانفعالات، وتعلّم السلوك الاجتماعي. دخول دمى مثل "لابوبو" يُمثّل اختراقًا لهذا النسق، حيث يتم تفكيك المنظومة الرمزية للعب لصالح نماذج جمالية وسلوكية غريبة عن السياق المحلي. هذا ما يجعل من "لابوبو" أكثر من مجرد لعبة، بل أداة لإعادة تشكيل الذوق والسلوك والهوية ضمن منظومة استهلاك رمزي عالمي لا تُراعي الخصوصيات الثقافية.
اللافت أن "لابوبو" لم تتوقف عند الأطفال، بل اقتحمت فضاء الكبار من خلال الموضة والميمات والفنون الشعبية، ما يعكس أزمة في النضج الثقافي. حين يُقلّد الكبار رموز الطفولة، ويتبنونها كأدوات تعبير أو تسلية، فإنهم يتنازلون ضمنيًا عن دورهم التربوي والمرجعي. هذا الانزلاق يُفاقم من حالة "التسيّب الرمزي" (أي غياب المعايير القيمية في الرموز)، حيث لا يعود ثمة فارق بين عالم الكبار والصغار، ولا بين من يُربّي ومن يُربّى، ما يُنتج جيلًا بلا مرجعية أخلاقية واضحة.

يُمكن فهم "لابوبو" كأحد أعراض التحوّل في بنية الوعي الجمعي العربي، من التربية على القيم إلى الاستهلاك الرمزي المتحرر من المعايير. هيمنة دمى مثلها تؤشّر على اختراق منظومة القيم، حيث تغدو أدوات اللعب أدوات تطبيع ثقافي مع الغرابة، ومع الشر حين يُجمّل. هذا الانفتاح، إن لم يُقابل بوعي نقدي، قد يُفضي إلى تفكك في البناء الرمزي للأخلاق، وإضعاف لأدوار الأسرة والمدرسة والدين في التنشئة. وفي مجتمع يُعاني من أزمات هوية وتحديات قيمية، فإن مثل هذه الرموز تُسهم في تعميق التوتر بين التقاليد والحداثة.
دمية "لابوبو" ليست لعبة بريئة، بل علامة على تحوّل عميق في معاني اللعب والهُوية والذوق. في السياق العربي، تُنبئ هذه الظاهرة بضرورة إعادة التفكير في منظومة الترفيه واللعب، وحماية الأطفال من التسلية التي تُنتج لاوعيًا جمعيًّا هشًّا. إن المطلوب ليس التحريم، بل التحليل؛ وليس الرقابة فقط، بل الفهم، من أجل بناء بيئة رمزية تُعيد للعب براءته، وللقيم مرجعيتها.

تم نسخ الرابط