في لحظة دقيقة من عمر الوطن، وعند مفترق حساس يمس حياة ملايين المواطنين، جاءت توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن قانون الإيجار القديم لتعكس فلسفة دولة تدير الإصلاح بالتوازن، وتخوض أصعب الملفات بوعي اجتماعي وبعد سياسي عميق ، وما وجه به الرئيس للحكومة بخصوص هذا الملف يؤكد مجددا أن القيادة السياسية تمسك بزمام القضايا الشائكة لا لترضي طرفا أو تجامل فئة، وإنما لتحقق عدالة اجتماعية متكافئة تحترم حقوق جميع المواطنين.
ومما لا شك فيه أن قانون الإيجار القديم يعد واحدا من أكثر الملفات القانونية والاجتماعية تعقيدا في مصر، إذ نتحدث عن منظومة تشريعية يعود أصلها إلى ستين عاما مضت، نمت فوقها طبقات من القوانين والتعديلات والأحكام والمواقف الاجتماعية والاقتصادية، حتى باتت ككرة خيط ضخمة، يصعب الإمساك بطرفها بسهولة.
هذا القانون، الذي حكمت به علاقات الإيجار بين المالك والمستأجر لعقود طويلة، خلق حالة من الجمود، وأفرز مشكلات مزمنة تتعلق بعدم العدالة في القيمة الإيجارية، وتعطل حركة السوق العقاري، وإهدار قيم اقتصادية كبيرة، ومع ذلك، فإن الحل لم يكن يوما سهلا، ولا يمكن أن يفرض بقرار فوقي بعيدا عن اعتبارات الواقع الاجتماعي والإنساني.
الرئيس السيسي، في توجيهاته الأخيرة للحكومة بشأن قانون الإيجار القديم، أثبت أن الإصلاح حين يصدر عن قيادة لديها حس المسؤولية وفهم لتركيبة المجتمع، يصبح إصلاحا واعيا لا قاطعا، ومسؤولا لا عشوائيا فقد شدد الرئيس على ضرورة مراعاة ما أثير من آراء واعتراضات حول المسودة الأولية للقانون، مع زيادة المدة الانتقالية لأكثر من خمس سنوات، وهو ما يعكس حسا اجتماعيا عاليا وحرصا على عدم الإضرار بملايين الأسر، كما أوضح الرئيس أهمية التفرقة بين الوحدات السكنية والتجارية، بحيث تكون المدة الانتقالية أطول في السكنية، مع وضع نظام مرن يبدأ تدريجيا حسب الأحياء والمناطق، بما يراعي طبيعة كل منطقة وظروف قاطنيها.
هذه التوجيهات تؤكد أن الرئيس لا يرى القوانين مجرد نصوص جافة، بل أدوات لتحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي، ولذا فهو يوجه الحكومة دوما عند إعداد هذه التشريعات إلى مراعاة التوازن بين الحقوق المتعارضة، وإلى فتح باب الحوار والنقاش العام مع مختلف الأطراف.
ما يستوقفنا هنا هو تأكيد القيادة السياسية مرارا وتكرارا أن الدولة لا تنحاز لطرف على حساب طرف، لا لصالح ملاك يطالبون باسترداد أملاكهم، ولا ضد مستأجرين يخشون الطرد أو الفقدان و هذا هو منطق الدولة، وهذا هو وعي القيادة، أن تكون فوق الصراعات، تقودها وتحلها، لا تشعلها ولا تتورط فيها.
ولعل هذا ما عكسته المسودة الأولى للقانون، التي تم إرسالها إلى البرلمان دون تصديرها كموقف نهائي، بل كمقترح قابل للنقاش والمراجعة، في ظل استعداد واضح من الحكومة لتعديل النصوص وفقا لما يستقر عليه الحوار الوطني داخل مجلس النواب وفي الساحة العامة.
إن الحديث عن "البعد الاجتماعي" ليس ترفا في السياسة المصرية، بل أصبح مكونا أساسيا في جميع القرارات السيادية و توجيهات الرئيس بأن تحدد القيمة الإيجارية الجديدة والمدة الانتقالية بما لا يخل بالاستقرار الأسري ولا يربك حياة الملايين، تجسد التزاما راسخا بأن كرامة الإنسان أولا، وحقه في السكن الآمن جزء أصيل من العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، ويأتي هذا المبدأ انسجاما مع فلسفة العدالة التي تبنتها الجمهورية الجديدة، والتي ترى في إصلاح التشريعات مدخلا لتحقيق التنمية الشاملة، لا بابا للتوترات أو لتغذية الصراع الاجتماعي.
إن توجيهات الرئيس السيسي في هذا الملف تؤكد أن مصر تسير على طريق إصلاح حقيقي مستدام، لا ينطلق من رغبة في التغيير فقط، بل من فهم عميق للواقع، وإدراك بأن القانون حين يصلح، يجب أن يصلح المجتمع معه، وأن التغيير حين يفرض، ينبغي أن يحمي الفئات الأضعف، ويضمن التدرج في الانتقال من واقع إلى آخر.
وإذا كنا قد شهدنا في السنوات الأخيرة تحولات تشريعية واسعة في ملفات كالضرائب، والعقارات، والدعم، فإن قانون الإيجار القديم يمثل واحدا من أواخر معاقل التشريعات الموروثة التي تتطلب إصلاحا عاجلا ولكن حكيما.
القضية لم تعد قانونا فحسب، بل اختبارا لقدرة الدولة على إدارة التغيير بحكمة وعدالة، وما قدمه الرئيس السيسي من توجيهات يضع نموذجا يحتذى في الإصلاح المتوازن، الذي يقرأ الخريطة المجتمعية جيدا، ويعرف أن تشريعا واحدا قد يؤثر على حياة ملايين، ومن ثم لا يصح أن يفرض بمعزل عن أصحاب المصلحة.
إننا ننتظر من البرلمان أن يستكمل هذه الرؤية، ويستمع إلى كافة الأصوات، وينتج في النهاية قانونا يعيد التوازن إلى علاقة المالك بالمستأجر، ويعزز العدالة الاجتماعية، ويحقق الاستقرار الأسري، دون أن يضحي بحقوق أي طرف، فالرؤية قد وضعت، والتوجيهات قد صدرت، والبوصلة واضحة: عدالة، توازن، واستقرار وأضيف على ذلك ان مالا يدرك كلة لا يترك كلة وان مجرد تجزئة وخلخلة تلك القضية المتراكمة منذ عشرات السنين هو شجاعة وبداية لتحقيق حل شامل للقضية