عزلة إسرائيل الدولية .. صحوة عارضة ومستقبل غامض أم موقف حاسم؟

فى المأثور الشعبى "عمر الكذب قصير" ومن بين الأقوال المأثورة للرئيس الأمريكى السادس عشر أبراهام لنكولن "أنه يمكن أن نكذب على الناس بعض الوقت، وأن نخدع بعض الناس كل الوقت ولكنه لا يمكن أن نكذب على كل الناس وأن نخدع كل الناس طوال الوقت". تصدق هذه الأقوال على علاقة إسرائيل بالدول الأوروبية، حيث خدعت الأولى بعض هذه الدول كل الوقت، علماً بأن الكذب فى الحالة الإسرائيلية ليس مجرد أداة أو وسيلة تكتيكية لمواجهة بعض الظروف الطارئة أو المستجدة، بل هو حالة بنائية تكتسب صفة الديمومة، وحالة مؤسسية تغذى بترهاتها وأكاذبيها كافة المجالات الإعلامية والدينية والتاريخية والعسكرية.
وفقًا لدراسة أعدها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، فالكذب مكون رئيسى لا يمكن الاستغناء عنه، حيث يمثل الرواية الرسمية والوجود المادى لإسرائيل ويبررهما؛ فالأرض ليست فلسطينية ولكنها أرض التوراه واليهود، والجيش ليس قاتلاً للأطفال والنساء، بل "أكثر الجيوش أخلاقية فى العالم"، والسردية الفلسطينية ملفقة وغير حقيقية وهلم جرا. غير أن المؤسف فى الأمر أن أغلب الدول الأوروبية إما أنها تواطأت مع هذه الأكاذيب، أو أنها صمتت عنها لأسباب تتعلق بعقدة اضطهاد اليهود، أو أنها صدقتها بدرجات مختلفة، إلى أن وقعت عملية طوفان الأقصى فى السابع من أكتوبر عام 2023 وانبرت العديد من البلدان الأوروبية المؤثرة فى المشهد الدولى فى تأييد الرواية الإسرائيلية وحق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها وبدأت جريمة إبادة الشعب الفلسطينى فى غزة منذ الثامن من أكتوبر عام 2023 ولم تتوقف حتى الآن، أى خلال ما يقرب من العشرين شهراً، ووصل عدد الشهداء من النساء والأطفال والرجال فى غزة إلى ما يزيد على 53 ألف شهيد، وتحول القطاع برمته إلى أنقاض وأطلال وتقوضت فيه مقومات الحياة، بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة من المصابين والمرضى والمعوقين.
خطوات متأخرة
الصحوة الأوروبية الحالية إزاء جرائم الحرب الإسرائيلية والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولى والقانون الإنسانى الدولى والمواثيق الدولية المختلفة، جاءت متأخرة كثيراً، ولكن كما يقولون فى الأمثال الذى يأتى متأخراً أفضل من الذى لا يأتى أبداً، ولو كانت الدول الأوروبية أخذت بما اقترحته أسبانيا وأيرلندا فى فبراير 2024 بإعادة النظر فى اتفاق الشراكة الإسرائيلية مع الاتحاد الأوروبى، لربما جرت الأمور على غير هذا النحو الذى جرى ويجري حتى الآن.
تعود أسباب هذه الصحوة الأوروبية فى مواجهة الجرائم الإسرائيلية إلى عدد من العوامل فى مقدمتها ما تراه الدول الأوروبية من مؤشرات فى افتراق موقف إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن الموقف الإسرائيلى، أو بعبارة أدق عن موقف حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة مثل موقف الإدارة الأمريكية من المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووى ومفاجأة إسرائيل – نتنياهو بذلك، والاتفاق الأمريكى المنفرد مع الحوثيين فى اليمن ووقف الضربات الجوية عليهم والاتفاق معهم وعدم شمول الاتفاق للتعرض للسفن الإسرائيلية أو العمق الإسرائيلى، وكذلك جولة ترامب الخليجية من 13 إلى 16 مايو 2025، والتى زار فيها المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة ولم يقم بزيارة إسرائيل، بالإضافة إلى ذلك قيام الولايات المتحدة الأمريكية بفتح قناة تفاوضية مع حركة "حماس" مستقلة عن قنوات التفاوض الإسرائيلية مع الأخيرة للإفراج عن المجند الإسرائيلى الأمريكى ألكسندر عيدان، حيث لا تزال هذه القناة التفاوضية قائمة حتى الآن.
وربما شجع الصمت الأمريكى إزاء الإجراءات الأوروبية على استمرار أوروبا فى بلورة هذه المواقف. ومع ذلك، فإن أوروبا فى عهد ترامب تبحث عن مخارج للانكشاف الاستراتيجى وزيادة الرسوم التجارية، وهو ما قد يحفزها على اتخاذ مواقف مستقلة ولا تكتفى بدور التابع لمواقف الولايات المتحدة الأمريكية إن إزاء الشرق الأوسط أو فى أوكرانيا والأمن الأوروبى.
يبدو أن هذه المؤشرات وقراءة الأوروبيين لها على هذا النحو قد رفعت الغطاء عن الغضب الأوروبى المكتوم من الممارسات الإسرائيلية. أما السبب الثانى وراء المواقف الأوروبية الجديدة من إسرائيل خاصة من قبل فرنسا والمملكة المتحدة وكندا والتى تمثلت فى استدعاء السفراء الإسرائيليين وتعليق مفاوضات إنشاء منطقة تبادل تجارة حرة مع المملكة المتحدة والمطالبة بوقف الحرب والتجويع والتهجير فى غزة وفتح الباب للمساعدات الإنسانية، فقد عجَّل باتخاذها استئناف حصار قطاع غزة منذ الثانى من مارس الماضى وعدم إدخال المساعدات الغذائية وانتشار المجاعة وبدء إسرائيل للعملية المسماة "عربات جدعون" وإعلان عزم إسرائيل على احتلال قطاع غزة وتقسيمه إلى مناطق تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، واستمرار الحرب بلا نهاية وبلا استراتيجية سياسية واضحة لما بعد انتهاء هذه الحرب.
بالإضافة إلى أن الدول الأوروبية ليس بمقدورها تجاهل الرأى العام الأوروبى وخاصة المنظمات الإنسانية والأهلية العاملة فى الحقل الإنسانى والإغاثى ومختلف الفئات من الطلاب والناشطين والمتعاطفين مع قضية الشعب الفلسطينى فى الجامعات ومعاهد التعليم المختلفة. وبطبيعة الحال، فإن الجرائم الإسرائيلية التى تتعلق بجرائم الحرب والإبادة والتطهير العرقى والجرائم ضد الإنسانية أصبحت منظورة أمام القضاء الدولى فى أعلى مستوياته سواء التى تتبع الأمم المتحدة كمحكمة العدل الدولية أو المستقلة كالمحكمة الجنائية الدولية والتى تفتح الباب أمام تفاقم الضغوط الأوروبية والعقوبات.
على صعيد آخر، فإن موقف أوروبا من الحرب الروسية-الأوكرانية لن يكتسب المصداقية اللازمة إلا إذا توحدت المعايير وتوقف الكيل بمكيالين وغيرت أوروبا موقفها من إسرائيل وحرب الإبادة والتهجير التى تشنها ضد الشعب الفلسطينى، والحال أن إسرائيل ومنذ بدء جريمة الإبادة فى غزة وانكشاف أبعادها ودوافعها الداخلية السياسية والأيديولوجية واستمرار جرائمها ضد الشعب الفلسطينى، تواجه عزلة دولية ومقاطعات شتى من بينها المقاطعة الشعبية BDS وكذلك مقاطعات أكاديمية تتعلق بحضور المؤتمرات والتبادل وتمويل البحوث ومقاطعة بعض الشركات بذرائع مختلفة مثل افتقاد الأمن. غير أن أغلب هذه الأشكال من العزلة لم يتخذ شكلاً علنياً وواضحاً إلا فى هذه الآونة التى يهدد فيها الاتحاد الأوروبى بإعادة النظر فى اتفاق الشراكة الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل على ضوء المادة الثانية من هذه الاتفاقية التى تؤكد أن هذه الشراكة قائمة على أسس ومبادئ حقوق الإنسان واحترامها وكذلك تعزيز الديمقراطية. وقد كلف الاتحاد الأوروبى لجنة (SEAE) "الخدمة الأوروبية للعمل الخارجى"، بتولي إعادة النظر فى هذه الشراكة على ضوء هذه المبادئ.
ربما يكون هذا الإجراء أهم إجراء أوروبى فى طور النظر والاعتماد، لأن الشراكة بين الاتحاد الأوروبى وإسرائيل تمثل ما يوازى 32% من تجارة الأخيرة مع العالم الخارجى، وذلك وفق أرقام الاتحاد الأوروبى لعام 2024. كما أن التعاون العلمى بين إسرائيل والاتحاد الأوروبى كبير، خاصة فى مجال الأقمار الصناعية والبرنامج المعروف "Galleo" الذى يمثل حجر الزاوية لإسرائيل للاندماج فى عملية العولمة.
ومع ذلك، فإن إدراج هذا البند المتعلق بإعادة النظر فى الشراكة التجارية والاقتصادية بين الاتحاد الأوروبى وبين إسرائيل، تكتنفه صعوبات عديدة من بينها أولاً أن مثل هذا القرار يتطلب موافقة الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى السبعة والعشرين ومن بين هذه الدول من يمنح إسرائيل تأييداً غير مشروط. وحتى اللحظة يوافق على إعادة النظر فى هذه الشراكة 17 دولة عضو من بينها أسبانيا وأيرلندا، اللتين قدمتا هذا الاقتراح فى وقت مبكر، وهولندا التى قدمت الاقتراح مؤخراً ووافقت عليه هذه الدول، والتي من بينها دول كانت تمنح إسرائيل تأييداً تقليدياً غير مشروط على غرار النمسا وسلوفينيا وبولندا.
ومن ثم، فإن القرار بتعليق هذه الشراكة بين الاتحاد الأوروبى وإسرائيل عملياً، يبدو بعيداً عن الاحتمال، لأنه يتطلب إجماع مجموع الدول الأعضاء السبعة والعشرين، وذلك رغم الاختلالات التى ظهرت إزاء تأييد إسرائيل، إذ أن ثمة العديد من الدول المرشحة للاعتراض على مثل هذا القرار مثل ألمانيا والمجر. ومع ذلك، فإن أغلبية مكونة على الأقل من 15 دولة عضو تمثل ما يقرب من 65% من سكان الاتحاد الأوروبى بمقدورها على الأقل وقف الجانب التجارى من اتفاق الشراكة مع إسرائيل.
مستقبل غامض
سواء تم تعليق اتفاق الشراكة مع إسرائيل أو تعليق الجانب التجارى على الأقل منه، فإنه لا يمكن الجزم بمستقبل الموقف الأوروبى من إسرائيل؛ لأن ثمة احتمالاً بأن يكون مثل هذا الموقف مناورة لتهدئة الرأى العام، خاصة أن الواقع الذى يتعلق به هذا القرار كان ولا يزال قائماً منذ ما يفوق العام ونصف العام، وكان من الممكن اتخاذ هذا القرار منذ وقت مبكر وغالباً ما يكون هذا البطء فى اتخاذ القرار آلية دبلوماسية أوروبية لتحييد آثاره والاكتفاء بصورة القرار فى حين يختفى المضمون.
وبالإضافة إلى عقبات اتخاذ مثل هذا القرار إن من الناحية التصويتية أو السياسية وفق آليات الاتحاد الأوروبى وتباين مواقف الدول الأوروبية إزاء السياسة الإسرائيلية، فإن إسرائيل بدورها ولوبياتها فى الخارج وبالذات فى أوروبا ستلعب دوراً هاماً فى عرقلة اتخاذ هذا القرار. فمن ناحيتها، حرصت إسرائيل على التظاهر بالامتثال للضغوط الدولية والسماح بدخول بعض الشاحنات والمواد الإغاثية والتى لم تعدو أن تكون قطرة فى بحر احتياجات مواطنى غزة على حد تعبير بعض مسئولى الأمم المتحدة، ولكن الهدف منها تفريغ هذه الضغوط من غايتها الحقيقية وهو فتح الأبواب أمام المساعدات الإنسانية والإغاثية بلا حدود ودون عسكرة وتسييس هذه المساعدات واستخدامها كسلاح فى الحرب التى لا تنتهى ضد غزة والشعب الفلسطينى.
كما تحاول إسرائيل أن توضح عدم فهم الأوروبيين للمناخ المعقد الذى يحيط بأمنها، وسوف تلجأ لكل الأساليب والمناورات للحيلولة دون المضى الأوروبى قدماً فى طريق العقاب وفض الشراكة؛ لأن ذلك سيفتح أبواب الجحيم على إسرائيل وسينزع عنها الحصانة الدولية التى تمتعت بها منذ نشأتها وحتى الآن خاصة مع تزامن هذه الضغوط مع انعقاد مؤتمر حل الدولتين فى يونيو القادم فى الأمم المتحدة برعاية فرنسية-سعودية.
ولن تتورع إسرائيل فى سبيل وقف القرارات الأوروبية عن استخدام سلاح معاداة السامية واعتبار المواقف الأوروبية الجديدة إعادة إحياء للمواقف الأوروبية القديمة المعادية للسامية، وكأن إسرائيل تضع نفسها فوق مستوى النقد وسياساتها تحظى بالقداسة والحصانة وستجد عبر منافذها الإعلامية والدعائية ومنظمات الحركة الصهيونية فى أوروبا المداخل الشرعية والقانونية للتأثير على صانع القرار الأوروبي.
وإذا كانت المواقف الأوروبية مرهونة بإجراءات التصويت وقاعدة الإجماع وتباين مواقف الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى، فإن المحصلة النهائية من المبكر الحكم عليها من الآن فى انتظار تفاعل هذه الرهانات وتبلور محصلتها النهائية وفشل إسرائيل فى منع انعقاد مؤتمر حل الدولتين المشار إليه.
كما أن تأثير هذه القرارات الأوروبية فى الواقع الإسرائيلى والحكومة الإسرائيلية – هذا إن صدرت بالطريقة المتوقعة - سيواجه بعقبات سيطرة اليمين المتطرف الاستيطانى وائتلافه مع الليكود ونتنياهو على رأسه، حيث يرى هذا الائتلاف أن الطريق مفتوح لتصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الأمل فى تنفيذ حل الدولتين واستكمال السيطرة الأمنية والاستيطانية على الضفة الغربية وفقاً لخطة الحسم التى وضعها زعيم الصهيونية الدينية المتطرف عام 2017 ووافقت عليها القوى السياسية فى إسرائيل عام 2018، وهى الخطة التى يسترشد بها التحالف الحاكم فى إسرائيل فى ممارساته ليس فحسب فى غزة بل فى الضفة الغربية أيضاً وتجاه السلطة الفلسطينية.
على أى حال، فإن هناك أملاً فى أن تكمل أوروبا والاتحاد الأوروبى الطريق الذى سلكته إزاء إسرائيل وأن تتوقف أوروبا عن اعتماد الرواية الإسرائيلية وأن تفرض عقوبات مثل فض الشراكة مع إسرائيل وأن تعيد الثقة فى القانون الدولى والقانون الدولى الإنسانى والدبلوماسية متعددة الأطراف وتحمل المجتمع الدولى مسئولياته إزاء الشعب الفلسطينى وحقوقه العادلة والمشروعة ولعل هذه البداية وذاك التحول يمثل أول الغيث لنصرة الشعب الفلسطينى.
ورغم الحديث المتواتر فى وسائل الإعلام، إن الإسرائيلية أو العربية، عن عزلة إسرائيل الدولية وتدهور مكانتها وصورتها الدولية منذ بدء حرب الإبادة وفى هذه الآونة الأخيرة التى يتبلور فيها نسبياً العزم على اتخاذ خطوات مؤثرة فى مواجهتها من قبل الاتحاد الأوروبى وكندا وبريطانيا وغيرها من الدول والصمت الأمريكى الذى يقترب من الرضا عن ذلك، فإن هذه الضغوط حتى الآن لا ترقى إلى المستوى المطلوب لوقف حرب الإبادة والتجويع وتقف حتى الآن فى خانة التلويح والتهديد بها ولم تدخل بعد حيز النفاذ والواقع الذى بمقدوره أن يردع إسرائيل عن تحدى العالم والمجتمع الدولى والقانون الدولى والضمير العالمى والقيم الأساسية لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية.
ولو نجحت إسرائيل فى احتواء هذه الضغوط وتفريغها من مضمونها بعد هذه الجرائم الجسيمة بحق الشعب الفلسطيني، فإن عواقب ذلك ستعزز مشروع التوسع الإقليمي الإسرائيلي فى لبنان وسوريا وربما دول أخرى وستتمكن من إنهاء القضية الفلسطينية وتفتح الباب لعدم الاستقرار وتفاقم التوتر وانعدام الأمن فى هذه المنطقة الحيوية من العالم، وهذا هو الخطر الأكبر الذى يتعين على أوروبا والمجتمع الدولى بأسره مواجهته.