عاجل

في شهر واحد، اجتاحتنا “ترندات” لا تستأذن، تبدأ من عنوان مثير، ثم تنتشر كالنار في الهشيم، يتفرج عليها الجميع، ويشارك فيها الجميع، ولا أحد يخرج منها سالماً ولا غانماً .

بدأت القصة بعنوان صادم: “نوال الدجوي تُسرق منها ملايين الجنيهات والدولارات والذهب!”، ثم اتهام حفيدها، فصراع عائلي مكشوف أمام جمهور لا يرحم، وجدل يخلط بين المال، والتربية، والاتهامات الجاهزة.

غاب عن المشهد أن "ماما نوال "سيدة علي  مشارف التسعين، فقدت ابنيها، وكرّست عمرها للتعليم وكانت أول من أنشأ مدرسة خاصة ثم سلسلة مدارس دولية وجامعة خاصة كبري، لكن إنجازاتها لم تشفع لها أمام سعار المنصات، ولا أحد اهتم بتكريمها من جرينتش البريطانية  لا أحد يذكر ولا رصيد يشفع.

 

وفي ترند آخر، ظهرت السفيرة نبيلة مكرم، تتحدث عن ألمها كأم لابن"مسجون" بتهمة قتل، مصاب بالفصام. لم تتهرب، بل واجهت، بصوت أمٍّ موجوعة، تستنجد بإيمانها. لكنها لم تُمنح تعاطفًا، بل هجومًا قاسيًا جرّدها من كل ما فعلته سابقًا للدولة والمصريين في الخارج.

 

جرحها كأم لابن يقضي عقوبة في سجن أمريكي، بعد إدانته بجريمة قتل شابها تشخيص بالفصام الذهني، عاد للواجهة بعد ظهورها الإعلامي الأخير. رغم تكرار الحديث، أُعيد إخراجه بطريقة تقتنص الانتباه، عنوان مثير ومقتطف من كتاب لم يصدر بعد، كافيان لإشعال الهجوم. وكأن البوح بالألم صار ضعفًا، وكأن الأمومة تهمة.

 

السيدة لم تنكر ما حدث، بل واجهته كأم مكلومة، تستمد عزاءها من إيمانها، وتُصرّح بمحبتها دون أن تتجاهل العدالة تعزي  ضحايا لا ذنب لهم وتشعر بألمهم ، وتحاول ان تساعد نفسها وابنها وآخرين مثلهم، تساعد وهي تعلم انها ربما لا تري ابنها من جديد ..

لكن ذلك لا يكفي  ليرحمها من مواجهة  جلدًا قاسيًا من جمهور لا يرى في المأساة إنسانًا، بل موضوعًا للانفعال والتجريح، متناسين أن الفاجعة حين تطرق الأبواب لا تفرّق بين عامة ومسؤولة.

 

 وانطلق الترند الملعون فلماذا واجهت ولماذا اعترفت و لماذا لم تنزوي وتختفي وتدفن حية ويتم وأدها وتنتهي عائلتها  بالكامل ، لا أثر لصوت حملاتها للأسرة للاهتمام بالأمراض النفسية المنتشرة من ضغوط متزايدة ولا قيمة للتوعية باكتشافها وعلاجها، بل كل ما قامت به من جهود سابقة تم انكارها بسهولة ، لا ربط لابناء المصريين بالخارج ، ولا للعلماء ولا مبادرات اقتصادية لتعزيز الدخل القومي، ولا كرامة المصريين في الخليج ولا مكافحة الهجرة غير الشرعية ،ولم يوقف من يهاجم بضراوة ولا من ينصب نفسه قاضي وجلاد ولا يعوزه الاحكام التي صدرت والعقوبات التي اتخذت  مهما كانت قسوتها  لا تكفي ليشفي الغليل المستعر. 

 

لا إنجازات تُذكر حين تحكم السوشيال ميديا، لا منصب يحمي، ولا مصداقية تبقى، والجميع ينصب نفسه قاضيًا وجلادًا. و استمرت المعركة، سلخ على صفحات “الترند”، تقطيع على موائد اللايك والشير، حتى فُجع الجميع  اليوم بخبر وفاة الحفيد، أحمد الدجوي، المفاجئة. 

بيان رسمي يقول إنه أنهى حياته بنفسه، بعد عودته من الخارج. البعض قال إسبانيا، آخرون أشاروا إلى معاناته النفسية الطويلة

 لم توقف المأساة  الترند المسعور بل أشعلت جذوته من جديد لتمادي البعض في اتهام الجدة نفسها.

 

مآسٍ إنسانية حقيقية، لكننا نحن من شوّهها، بالغنا، صغناها بعناوين صاخبة، وسكبنا عليها انفعالات لا تعرف الرحمة. كما قال غوستاف لوبون في  سيكولوجية الجماهير: “حين ينخرط الفرد في الجمهور، يتخلى عن وعيه ويذوب في اللاشعور الجمعي”.

 

وبينما انشغلنا بهذه القصص، مرّت مأساة الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار التي فقدت تسعة من أطفالها في غارة… بلا اهتمام مستحق، بلا “ترند”.

 

فإلى أين نمضي؟

هل نحتاج كارثة أكبر لنصحو؟

أم لحظة صمت… 

فقط لحظة، نراجع فيها ما أصبحنا عليه؟

ليتنا نتحمل مسؤوليتنا فما يحدث ليس مجرد “قصص”، بل تحلل إنساني يتسلل إلى أرواحنا.

تم نسخ الرابط