عاجل

جلست إلى جواري بينما كان القطار يتحرك بهدوء مغادرًا محطة الجيزة إلى الجنوب، فتاة في نهاية الثلاثينيات، لم تغير ملامح الحزن الواضح شيئا من جمالها، أو براءتها، نظرت إلي مرات كثيرة، بدت في حاجة مُلحة للحديث، حديث الغرباء عندما نلقاهم قدرًا ونبوح بكل ما نخفيه دون خوف ثم يمضي كل منا في طريق ولا نلتقي ثانية. 

أدركت ما أرادت، فبادرت بالحديث، مقتنصة فرصة مرور بائع الشاي، سألتها هل تقبلين عزومتي؟ فوافقت، وبدأ الحديث.. 

عبير، اسمها، تعمل موظفة بهيئة السكة الحديد، وقد تزوجت منذ ١٥ عام وانتقلت رفقة زوجها وأطفالها من المنيا، إلى القاهرة، لديها مشكلات عادية مع زوجها، لكن ليست تلك هي الحكاية التي تؤرق جفونها، تحدثت عن الأمر دون أن تتحرك مشاعرها، مازال هناك ما تريد أن تقوله، ترددت، شربت الشاي بتوتر شديد. 

ثم قالت، أمي مريضة وأنا الآن ذاهبة لزيارتها، المفروض أكون حزينة، لكنني لست كذلك، أتدرين لماذا؟ لأني أكرهها. 

لم تبدُ علي دهشة أو امتعاض، ربما كانا تتوقع أن تصدمني كلماتها، لكن ذلك لم يحدث، لأمرٍ ما لم أدركه حينها، كنت متعاطفة معها، جاوزت رغبتي في الاستماع لشكواها الحاجز النفسي الطبيعي، فشجعها ذلك واستطردت: "أمي لم تكن تحبني، كانت تضربني وتعنفني وتعايرني لأن بشرتي سمراء، وأجبرتني على الزواج من شخص لا أحبه، وحرمتني من أبي وإخوتي لأنها لم تحب زياراتي لها، في أخر مرة زرتها ضربت بنتي، لذلك لم أذهب لزيارتها منذ سنوات، أمي أسوأ شخص بالعالم، أنا أكرهها."

‏‎في ثقافتنا، لا توجد جملة أكثر رجًّا للأعراف من: "أنا لا أحب أمي." تُلقَّن الفتيات منذ نعومة أظافرهن أن الأم ملاك، وأن برها جواز عبور إلى الجنة. لا يُسألن عن شعورهن، لا يُسمح لهن بالغضب، وحتى الألم الذي يتجرّعن مرارته يُصاغ دائمًا في جمل تبريرية: "كانت تقسو عليكِ لمصلحتك"، "أمك كانت تتعب لأجلك"، "هي بتحبك بطريقتها".

‏‎لكن ماذا لو لم تكن هناك "محبة" أصلًا؟
ماذا لو كانت الأم تؤذي، تُهين، تُقهر، تُعاقب على الوجود ذاته؟
هل من حق الأبناء أن يشعروا بالرفض؟ أن يختاروا الابتعاد؟ أن يحموا أنفسهم من أمهاتهم؟

 عبير لم تكن جاحدة، كانت فقط ناجية، تحدثت عن سنوات طويلة من القمع والشتائم والتشكيك بالنفس، تحدثت عن طفلة لم تُحتضن يومًا، بل كانت هدفًا مستمرًا لامتهان صامت، أم نرجسية، لم ترَ في ابنتها شخصًا، بل امتدادًا يجب السيطرة عليه، وإعادة تشكيله، ومحاسبته إذا خذلها. 

ولأن المجتمع لا يعترف بأم مؤذية، عاشت عبير ألمها في صمت، كلما حاولت أن تقول الحقيقة، أُجبرت على الصمت باسم "البر". لكن البر لا يعني الاستسلام للأذى، والمغفرة لا تعني الإلغاء.

‏‎الحب لا يأتي بالدم فقط، ولا تُورّثه الأمومة تلقائيًا.
بعض الأمهات لم يتعلمن كيف يحببن، وبعضهن أذى مستتر باسم القرب، والأخطر من الألم، أن يُفرض علينا أن نحبه، وأن نحتفي بمن جرحنا.

لا أرى كل أم مؤذية شريرة بطبيعتها، وليست كل قسوة تصدر عن الأم نتيجة كراهية صريحة، في كثير من الأحيان، الأم المؤذية تكون ضحية بدورها. ضحية لطفولة قاسية، أو زواج غير سعيد، أو ضغوط نفسية لم تُعالَج. بعض الأمهات يعانين من اضطرابات نفسية مثل النرجسية، اضطراب الشخصية الحدية، الاكتئاب الحاد، أو اضطرابات ما بعد الصدمة، دون أن يحصلن على تشخيص أو دعم.

‏‎

تسقط الأم في فخ "الإسقاط" فترى في ابنتها صورة لنفسها التي تكرهها، أو لمستقبل تمنته ولم تحصل عليه، فتبدأ في محاولة السيطرة أو الإلغاء أو التحقير. قد تمارس العقاب لا شعوريًا، ليس لأنها تكره الابنة، بل لأنها لم تتعلم كيف تحب دون أن تؤذي. 

‏‎وقد طرحت الكثير من الكتب والسير الذاتية هذا النوع من العلاقات المعقدة بين الأمهات والبنات، مثل كتاب “Will I Ever Be Good Enough?”للطبيبة النفسية كارين ماكبرايد، والذي يركز على تأثير الأمهات النرجسيات في حياة بناتهن، ويشرح كيف تنشأ مشاعر الذنب، وانعدام الثقة بالنفس، والتعلق المرضي، والقلق المزمن.

‏‎في عالم السير الذاتية، تحكي جيني لوسون في كتابها "Let’s Pretend This Never Happened" عن أم مصابة باضطرابات نفسية كانت تجرب في ابنتها "طرق التربية غير التقليدية"، ما جعل الكاتبة تعاني طويلًا من نوبات هلع واضطراب قلق حاد.

‏‎حتى في الثقافة العربية، تناولت أعمال درامية وسينمائية نادرة هذا الموضوع، كفيلم "عن الآباء والبنون" أو مشاهد محددة في بعض مسلسلات معاصرة، لكن يظل الحديث عن "أم مؤذية" من المحرمات الاجتماعية في العالم العربي، رغم واقعيته.

‏‎تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أن واحدًا من كل أربعة بالغين سيعاني من اضطراب نفسي خلال حياته، لكن نسبة من يسعون للعلاج النفسي في الدول العربية أقل من 15% بسبب الوصمة المجتمعية.

‏‎والأخطر أن الكثير من الآباء والأمهات يعانون من اكتئاب مزمن أو اضطرابات شخصية غير مشخصة، ما يجعلهم ينقلون آلامهم الداخلية إلى أطفالهم على هيئة عنف، إهمال، أو تلاعب عاطفي.

‏‎

عدم الاعتراف بالمرض النفسي أو رفض علاجه لا يلغي وجوده. وفي كثير من البيوت، يتم تبرير الأذى الأبوي بأنه "تربية صارمة"، بينما هو في الحقيقة سلوك مرضي موروث. النتيجة؟ أطفال يكبرون بجروح داخلية، لا يملكون تفسيرًا لها، سوى أنهم "هم السبب".

‏‎للأسف يتم تصوير الطاعة كأسمى الفضائل، خاصة تجاه الوالدين. لكن ماذا يحدث عندما يتحول هذا المبدأ إلى أداة خضوع عمياء؟

‏‎الطاعة غير المشروطة تمنع الأبناء من تطوير حدود نفسية صحية، وتجعلهم عرضة للاستغلال العاطفي أو النفسي. في حالات الأهل المؤذيين، تؤدي الطاعة المطلقة إلى تكرار دائرة العنف عبر الأجيال، أو قبول الظلم كقدر.

‏‎البر لا يعني قبول الأذى، ولا يعني استمرار علاقة سامة، كما أن القطيعة النفسية لا تُعد عصيانًا إذا كانت تحمي الشخص من الألم.


الوعي هنا هو المفتاح: أن يُدرك الأبناء أن لهم الحق في السلام النفسي، حتى لو كان الثمن هو كسر "التقاليد".

تم نسخ الرابط