التربية المالية في المدارس .. تجارب دولية ومقاربات تطبيقية

يتغير العالم اليوم بوتيرة متسارعة، ويُعاد فيه رسم ملامح الاقتصاد العالمي باستمرار؛ لذا لم يعد الحديث عن الثقافة المالية في المدارس مجرد ترف تربوي أو إضافة هامشية إلى المناهج الدراسية، بل بات ضرورة تفرضها تحولات جذرية في أنماط الإنفاق والادخار، وتغيّرات لافتة في سلوكيات الأفراد الاستهلاكية والمالية، خاصة في ظل تسارع الرقمنة وانتشار الخدمات المالية الإلكترونية.
ووفقًا لدراسة أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، إن مهارات القراءة والكتابة والحساب -رغم أهميتها- لم تعد كافية وحدها لإعداد الجيل الجديد لمواجهة تعقيدات الحياة اليومية ومتطلبات الاقتصاد المعاصر، فالأطفال والناشئة باتوا اليوم أمام تحديات مالية حقيقية تبدأ من قرارات بسيطة حول الإنفاق والادخار، ولا تنتهي عند استخدام البطاقات البنكية أو التعامل مع الإعلانات الرقمية والشراء عبر الإنترنت، فهم يُستهدفون يوميًا برسائل تسويقية ذكية ويتعرضون لضغوط استهلاكية متزايدة في بيئة مفتوحة على العالم، وهو ما يفرض ضرورة تزويدهم بأدوات فكرية ومهارية تمكّنهم من الفهم، والتحليل، واتخاذ قرارات مالية واعية ومستنيرة.
من هنا، تبرز أهمية إدماج التربية المالية في المنظومة التعليمية منذ المراحل الأولى، عبر مناهج مُحكمة وشاملة، تُراعي الفروق العمرية وتخاطب احتياجات كل مرحلة دراسية، وقد أدركت العديد من الدول أهمية هذا التوجه، فسارعت إلى تضمين مفاهيم الثقافة المالية في مناهجها، إما من خلال مقررات مستقلة أو مدمجة داخل سياقات تعليمية أوسع، ورغم تفاوت النماذج والتجارب، فإن القاسم المشترك بينها هو الإيمان العميق بأن التعليم المالي يشكّل ركيزة لتمكين المجتمعات وتعزيز استقلالية الأفراد، وفي هذا السياق، تبرز الفرصة أمام النظام التعليمي المصري لتأمل تلك التجارب ونقل ما يلائم أولوياته وتحدياته الاقتصادية والاجتماعية.
الممارسات والتجارب الدولية
تشير تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إلى أن نسبة كبيرة من الطلاب يفتقرون إلى المهارات المالية الأساسية؛ مما يؤثر سلبًا في قدرتهم على اتخاذ قرارات مالية سليمة، فبحسب نتائج تقييم PISA 2022 هناك 18% من الطلاب في 14 دولة من دول OECD لا يمتلكون الكفاءة الأساسية في الثقافة المالية؛ مما يعني أنهم غير قادرين على تطبيق معرفتهم في مواقف الحياة الواقعية المتعلقة بالقضايا والقرارات المالية، في ذات الصدد، ذهبت تقارير أخرى إلى ما هو أبعد من مجرد التشخيص، فالتقرير المعنون بـ”Shaping Students’ Financial Literacy” أوضح أن الطلاب اليوم ليسوا فقط غير مؤهلين لاتخاذ قرارات مالية رشيدة، بل إن هذه الفجوة المعرفية تعرّضهم لأخطار حقيقية، من الديون غير المدروسة إلى الوقوع ضحية للاحتيال المالي الرقمي.
في سياق مماثل، يحذر تقرير “The Role of Financial Literacy” من أن غياب الثقافة المالية لا ينعكس فقط في الجهل بالمفاهيم، بل في سلوك مالي غير مسئول يؤدي إلى تبعات اجتماعية واقتصادية، ويبرهن على أن الطلاب الذين يتمتعون بمهارات مالية أفضل يظهرون وعيًا أعلى واستباقية في التعامل مع مواردهم. مما أدى إلى دعوة صريحة لمراجعة سياسات التعليم، فقد أوصى تقرير “Financial Education in Schools” بضرورة إدراج التربية المالية في التعليم قبل الجامعي، ليس كمادة جانبية، بل كعنصر جوهري في المناهج الدراسية، وأكد على أن إدماج مفاهيم مثل إعداد الميزانية، والفائدة المركبة، وحقوق المستهلك المالي ضمن سياقات دراسية قائمة كالدراسات الاجتماعية والرياضيات، يخلق بيئة تعليمية أكثر ارتباطًا بالواقع، فالقيمة الكبرى تكمن في تبني التربية المالية كجزء من الهوية التعليمية، لا كمشروع مؤقت أو مبادرة موسمية، وقد خلص التقرير الصادر مؤخرًا بعنوان “Action Needed to Address Gaps in Financial Literacy Among Students” إلى أن سد هذه الفجوات يتطلب تحركًا متعدد المستويات، يشمل تطوير المناهج، تدريب المعلمين، وتوفير محتوى رقمي تفاعلي، إلى جانب تعزيز دور الأسرة في التربية المالية، لتصبح المدرسة والأسرة شركاء في بناء وعي مالي حقيقي.
إن أفضل الممارسات الدولية في هذا السياق لا تقتصر فقط على الوعي المبكر بأهمية إدماج التربية المالية في مراحل التعليم الأولى، بل تمتد لتشمل كيفية التطبيق، فالتجربة الأسترالية مثلًا تقدم نموذجًا رائدًا في بناء منهج وطني للتربية المالية، مدمج في المواد الدراسية من الصف الثالث الابتدائي، حيث يتعلم التلاميذ من خلال مفردات الرياضيات والدراسات الاجتماعية مهارات الادخار ووضع الميزانية وتحليل الأخطار المالية. هذا الدمج الطبيعي داخل سياقات تعليمية قائمة يجعل الثقافة المالية جزءًا من الحياة المدرسية اليومية، لا درسًا معزولًا ينتهي بنهاية الحصة. على صعيد آخر، أنشأت مؤسسة Junior Achievement في الولايات المتحدة الأمريكية فضاءات محاكاة تفاعلية تحت اسم “JA Finance Park“، يعيش فيها الطالب تجربة مالية شاملة تحاكي الحياة الواقعية؛ حيث عليه أن يختار السكن المناسب، ويحسب تكلفة التأمين، ويوازن بين دخله ومصروفاته.
هذه التجارب، بما تحمله من بعد عملي، لا تنقل المعرفة فقط، بل تبني السلوك وتُنمّي الحكمة المالية. إلا أن نجاح هذه النماذج لم يكن ليتحقق دون الاستثمار الحقيقي في إعداد المعلم، لذا وفرت مؤسسة “Young Money” البريطانية برامج متخصصة لتدريب المعلمين، وتزويدهم بمواد تعليمية قابلة للتنفيذ، بما يضمن جودة التطبيق داخل الصفوف التعليمية. من جهة أخرى، تلعب البيئة الأسرية دورًا لا يقل أهمية عن المعلم، لذا اختارت كندا أن تكون الأسرة شريكًا في التربية المالية، عبر برامج تفاعلية تشجع الآباء والأمهات على الحديث مع أبنائهم عن المال بطرق تربوية وبناءة مثل برنامج “ Talk With Our Kids About Money ” الذي أطلقته مؤسسة Canadian Foundation for Economic Education؛ حيث تحولت التربية المالية في هذه الممارسة إلى حوار مجتمعي مفتوح، يعزز القيم المالية السليمة منذ النشأة.
من منظور مختلف، تعكس تجربة سنغافورة نموذجًا متكاملًا لدمج التربية المالية في التعليم قبل الجامعي، حيث تتبنى وزارة التعليم، بالتعاون مع السلطة النقدية السنغافورية، منهجًا تدريجيًا يبدأ من مرحلة رياض الأطفال وحتى المرحلة الثانوية، ليراعي هذا النهج الفروق العمرية، فيتعلم الأطفال أساسيات الادخار والتمييز بين الرغبات والحاجات، بينما ينخرط المراهقون في مفاهيم أكثر تعقيدًا مثل القروض والفائدة، والتخطيط المالي، وبطاقات الائتمان، ويأتي هذا التدرج مدعومًا بأنشطة تفاعلية تشجع الطالب على التفكير النقدي واتخاذ القرار المالي منذ سن مبكرة.
ولا تقتصر ممارسات التربية المالية على الدول الغربية، بل للعالم العربي تجارب بارزة، صورة (1)، منها ما نفذته وزارة التربية والتعليم في الأردن عام 2015 بالتعاون مع البنك المركزي؛ حيث أُدرجت مفاهيم كالميزانية، والاستخدام الآمن للبطاقات البنكية، وأخطار القروض في كتاب مدرسي مستقل لطلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية. أما في السعودية، فقد تبنّت هيئة السوق المالية ووزارة التعليم مبادرة “تعليم الثقافة المالية” ضمن رؤية المملكة 2030، وذلك بهدف تعزيز الوعي المالي لدى الطلاب عبر وحدات دراسية مدمجة، وبرامج تدريبية للمعلمين، ومحتوى رقمي تفاعلي، كما تم تدشين مقرر تعليمي باسم “المعرفة المالية” رسميًا في العام الدراسي 1443هـ (2021/2022م) كأحد المقررات الأساسية في السنة الأولى من المرحلة الثانوية ضمن نظام المسارات.
تبرهن الممارسات والتجارب الدولية والعربية السابقة -باختلاف نماذجها- على أن التربية المالية ليست رفاهية، بل استثمار وطني طويل الأمد، لذا فإن تأمل هذه النماذج ونقل ما يناسب منها إلى السياق المصري، لم يعد مجرد اقتراح إصلاحي، بل ضرورة تفرضها التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، وفرصة حقيقية لبناء مستقبل أكثر استقرارًا وإنصافًا.
الرؤى والمقاربات التطبيقية
تشهد التجربة المصرية في الوقت الراهن جهودًا متناثرة لتعزيز التربية المالية لدى طلاب التعليم قبل الجامعي، بهدف دمج الثقافة المالية ضمن مناهج التعليم الأساسي، أبرزها مشروع “البنك المدرسي” الذي أطلقه البنك المركزي بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم عام 2022، لتقديم مفاهيم مالية مبسطة من خلال برنامج تعليمي للطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و18 عامًا، عبر 15 ساعة دراسية موزعة على مدار العام الدراسي؛ حيث وفر البرنامج منتجًا بنكيًا بالتعاون مع أحد البنوك، وأتاح للطلاب تجربة عملية تحاكي البيئة المصرفية بأسلوب مبسط في التعامل مع الخدمات المصرفية بهدف تنمية المهارات المالية الأساسية مثل الادخار، ترتيب الأولويات، وكيفية إدارة الموارد المالية، بالإضافة إلى توعيتهم بالخدمات المالية، خاصة الإلكترونية منها.
في العام ذاته، شرعت وحدة الشفافية والمشاركة المجتمعية بوزارة المالية، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، في دمج أسس التعليم المالي ومفاهيم شفافية الموازنة ضمن منهج “المهارات الحياتية” بالمرحلة الابتدائية، بهدف تعزيز قدرة الطالب على الفهم والمشاركة الاقتصادية الفعالة، صورة (2)، ورغم أهمية هذه الخطوات، فإنها لم تترجم إلى تطبيق يمكنه الانتشار والتكامل، فقد تم إطلاق هذه المبادرات من خلال مركز تطوير المناهج بالوزارة والذي ما لبث أن تم إحلاله واستبداله بإدارة مركزية تابعة للوزير بعد أشهر من المبادرة؛ الأمر الذي يستدعي إعادة التفكير في الرؤية العامة للتربية المالية في التعليم قبل الجامعي.
في ضوء ما سبق من ممارسات عالمية ومحاولات محلية يمكن استخلاص جملة من المقاربات على النحو التالي:
يقدم النموذج السنغافوري مقاربة غنية تستحق التأمل؛ إذ تم بناء منهج مالي يبدأ منذ رياض الأطفال ويتطور تدريجيًا ليواكب نضج الطالب العقلي، بالتعاون بين وزارة التعليم وهيئة النقد السنغافورية. هذه المقاربة العمرية المتدرجة لا تكتفي بتقديم المفاهيم، بل توظف الأنشطة العملية والألعاب التفاعلية لتعزيز الفهم وتنمية السلوك المالي الواعي. بيد أنها في ذات الوقت تحتاج إلى ممكنات متعددة لضمان نجاحها في السياق المصري، وأهم تلك الممكنات توفير الموازنة المالية وتدريب المعلمين والتوعية المجتمعية لضمان قبول إضافة مناهج جديدة في المراحل التعليمية المختلفة.
أما الولايات المتحدة، فتعتمد على دعم منظمات غير ربحية، توفر مناهج تدريبية وموارد تعليمية رقمية للمعلمين والطلاب على حد سواء، وهي المقاربة الأسرع في التنفيذ بما يلائم السياق المصري، وذلك عبر الاستفادة من الانتشار الجغرافي للمنظمات غير الربحية مثل: حياة كريمة والتحالف الوطني للعمل الأهلي والتنموي، وغيرها من مؤسسات ومنظمات القطاع الثالث، والتي يمكنها أن تعزز أدوارها وأنشطتها لنشر التربية المالية في المدارس أو عبر أنشطة موجهة للطلاب في النوادي وقصور الثقافة.
أما أستراليا والأردن والسعودية، فهذه التجارب مجتمعة ترسم ملامح مقاربة تطبيقية يمكن لمصر استلهامها، بحيث تستهدف الطلاب في المراحل العليا من التعليم قبل الجامعي خاصة في ظل التوجهات الإصلاحية وتطبيق نظام “البكالوريا المصرية الجديدة“، وذلك عبر توفير أربعة ممكنات رئيسية؛ أولًا: وضع استراتيجية وطنية للتربية المالية تشارك فيها جميع الجهات المعنية، وعلى رأسها وزارات التربية والتعليم والتعليم الفني، ووزارة المالية والبنك المركزي. ثانيًا: بناء مناهج مالية متدرجة تراعي التطور المعرفي والنفسي للطلاب، وتدمج بين المحتوى النظري والتطبيق العملي. ثالثًا: تأهيل المعلمين من خلال برامج تطوير مهني متخصصة تضمن قدرة الكادر التربوي على إيصال المفاهيم المالية بكفاءة. ورابعًا: إنشاء منظومة تقييم تتابع أثر التربية المالية على سلوكيات الطلاب وتوجهاتهم الاقتصادية على المدى الطويل؛ مما يضمن استدامة الأثر التعليمي والتحول الثقافي.
ختامًا: يمكن القول إن التربية المالية ليست مجرد حصة دراسية، بل مشروع وطني استراتيجي، يبني وعيًا مجتمعيًا يحد من الأزمات الفردية ويُسهم في تعزيز الاستقرار الاقتصادي للدولة، وفي اللحظة التي يختبر فيها العالم هشاشة النظم المالية التقليدية، يصبح الاستثمار في تربية النشء ماليًا هو الضمان الأذكى لمستقبل أكثر أمنًا ووعيًا؛ لذا فإن دمج هذه الثقافة ضمن مناهج التعليم قبل الجامعي، وتكريسها عبر سياسات تعليمية مرنة ومتكاملة، لم يعد خيارًا مؤجلًا، بل ضرورة عاجلة للانتقال من المبادرات المتجزأة إلى مشروع تربوي وطني متكامل، تتشارك فيه مؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني.