عاجل

من صدارة الدبلوماسية إلى عمق الإنسانية

نبيلة مكرم تفتح قلبها عن تحديات العمل العام ومحنة نجلها التي غيرت مسار حياتها

نيوز رووم

تظل السفيرة نبيلة مكرم، وزيرة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج السابقة، نموذجًا ملهمًا للمرأة المصرية التي جمعت بين النجاح المهني والصلابة الإنسانية، بدأت مسيرتها في السلك الدبلوماسي، حيث عملت في قنصليات وسفارات مصرية بعدة دول منها البرازيل وأمريكا وإيطاليا والإمارات، وفي 2015، تولت حقيبة وزارة الهجرة، وحققت خلالها إنجازات ملموسة في التواصل مع المصريين بالخارج، واستمرت في المنصب حتى 2022، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من حياتها حملت طابعًا إنسانيًا عميقًا.

وتحدثت السفيرة نبيلة مكرم خلال استضافتها ببرنامج «الرحلة» مع الإعلامية ريهام السهلي عبر فضائية «DMC»، عن تحديات المنصب، مشيرة إلى أن تقييد الحرية جزء من العمل العام، لكنها لطالما حرصت على التوازن بين دورها كمسؤولة وواجباتها كزوجة وأم، مؤكدة أن الدعم الأسري، خاصة من زوجها وأولادها، كان سندًا رئيسيًا لها في مواجهة ضغوط العمل والتنقل بين الدول، مشيدة بدور والدتها وجدتها في غرس قيم العطاء والصمود بداخلها منذ الصغر، خاصة بعد وفاة والدها وهي طفلة.

نبيلة مكرم.. سيدة مصرية جمعت بين النجاح المهني والإنسانية

قالت السفيرة: «أتحدث إليكم اليوم بكل صدق وشفافية، المنصب العام جميل وله قيمة ومسؤولية، لكنه أيضًا مقيّد، وأحيانًا يشعر الإنسان فيه بأن هناك حريات يتم التضحية بها، الناس لا تضايقها هذه القيود بشكل مباشر، لكن يبقى الإحساس بالضغط موجودًا، ودائمًا أحب أن أكون في قلب الحدث، في المواقف الصعبة، وقد حاولت بالفعل، خلال فترة وجودي بالوزارة، أن أطرح بعض المبادرات بالتعاون مع الكنيسة لتغيير بعض المفاهيم».

وأضافت: «ما مررتُ به بعد جريمة القتل في أمريكا والتي كان ابني طرفًا فيها، كان صدمة رهيبة وحزن عميق لم أعرف له مثيلًا، وأنا كوزيرة، وكأم، عشت التجربة إنسانيًا أولًا، وكنت أتعامل معها كامرأة مكسورة القلب، لا كمسؤولة سياسية، وهنا أقول: الوزير أو المسؤولة، سواء كان رجلًا أو امرأة، هو في النهاية إنسان، نشعر، ونضعف، ونبكي، ونحتاج أن نكون صادقين مع أنفسنا».

وأوضحت: «في عام 2022، انتهت علاقتي بالوزارة، لكنها لم تكن نهاية مشواري، بل كانت بداية جديدة، كانت وراءها محنة شخصية غيرت مسار حياتي بالكامل، من العمل الدبلوماسي إلى العمل الإنساني التي لم يكن تجربة وانتهت، بل هي مستمرة، تسكنني كل يوم».

أسوأ رسالة في الصباح الباكر

عن محنة ابنها رامي في الغربة وكيف تلقت الخبر وكواليس اتصالها بدولة رئيس الوزراء وتقديم الاستقالة، قالت: «أتذكر اللحظة جيدًا كان صباحًا مبكرًا، أستعد للنزول إلى مكتبي كعادتي، حين وصلني الخبر عبر واتساب، لا أستطيع أن أصف ما حدث لي وقتها، كانت الصدمة رهيبة، والحزن أعمق من أي وصف، ورغم هذا، لم أسمح لنفسي أن أظل تحت تأثير الصدمة طويلًا، وفي نفس اليوم، تمالكت نفسي، لم أؤجل، لم أهرب، ولم أختبئ، واتصلت مباشرة بالدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، وطلبت لقاءه ففوجئ، وقال لي: لو عايزة تقولي حاجة على التليفون قوليها، لكني أصررت وقلت: لا، من فضلك، لازم أجي بنفسي».

وتابعت: «وبالفعل، ذهبت إليه ظهرًا ودخلت مكتبه ووضعت أمامه استقالتي، قلت له بكل وضوح: أنا لا أستطيع أن أستمر، لم يكن الأمر هروبًا، كان قرارًا واعيًا ومسؤولًا لأسباب ثلاثة: أولًا، أنا أقسمت أمام رئيس الجمهورية أن أعمل بكل أمانة، ولا يجوز لي أن أُخلّ بهذا القسم، وأنا في قلب مأساة إنسانية تمس ابني، وقلبي، وحياتي، وثانيًا، كنت في حاجة شديدة لأن أركّز مع ابني رامي، الذي يمر بظروف نفسية صعبة، وأحتاج أن أكون بجانبه كأم، لا كوزيرة، وكنت بحاجة أيضًا أن أتعامل مع حزني وصدمتي كامرأة فقدت التوازن، لا كمسؤولة ملزمة بالتماسك أمام الناس، وثالثًا، كان لا بد أن أحمي الدولة من أن تكون هذه الأزمة مادة للهجوم، كُنت أعلم أن هناك من يترصّد، وينتظر أي ثغرة».

واستكملت: «لهذا قررت أن أغلق الباب تمامًا، وأتحمّل المسؤولية لكن ما لم أكن أتوقعه، هو ردّ فعل الدولة والقيادة السياسية، وأقولها وأنا مشوّشة حتى اليوم من الموقف الإنساني الذي رأيته منهم، ولا أعرف كيف أصفه لكنه فوق التوقع، فلم يتم قبول استقالتي، وطُلب مني الاستمرار، وفعلت ذلك، وواصلت العمل لمدة 3 أو 4 أشهر إضافية، حتى قررت الدولة أن الوقت أصبح مناسبًا لإنهاء المرحلة، وخرجت مع 13 وزيرًا آخر، ضمن تعديل وزاري، في لفتة كريمة ومُشرّفة، هذه هي الحقيقة لمن يسأل: أين كنتِ؟ وماذا فعلتِ؟».

كواليس محنة نجلها رامي

أما عن كواليس محنة رامي، قالت: «كانت صدمة، ولا زالت، لم أفهم، وما زلت لا أفهم: لماذا فعل ذلك؟ لكنني أتعامل مع الأمر كأم، وكما كنت دائمًا سندًا للناس، كان لا بد أن أكون سندًا لابني، حتى لو تكسّرت بداخلي كل القوة، أنا ماما في النهاية، ماما اللي بتطبخ، ماما اللي بتضحك، ماما اللي كانت على طيارة يومًا ما، فظنت مضيفة الطيران أنني أظهر في برامج الطبخ وسألتني: "مش حضرتك اللي بتطلعي تلفزيونيًا في برامج الطبخ؟ فأجبتها بابتسامة: لا، أنا وزيرة بس فعلاً بلف ورق عنب، وضحكنا سويًا، لكنني كنت أعنيها تمامًا. أنا إنسانة قبل أن أكون منصبًا، أم، وزوجة، وصديقة، ومصرية، وأعرف أن دوري لا ينتهي بترك الوزارة، ولا تُختزل قصتي في محنة».

وأضافت: «ما حدث في الولايات المتحدة من حادث مأساوي تورط فيه رامي نتيجة أزمة نفسية حادة كان أكبر اختبار مررت به في حياتي كلها، كأم قبل أن أكون وزيرة، وفي هذه اللحظة، أدركت أن كل ما تعلمته عن التوازن، عن إدارة الأزمات، عن التضحية، لم يكن كافيًا. واجهت العالم كله، وأعلنت أنني أم، وأنني سأقف بجوار ابني، ولن أخجل من مرضه، ولن أتوارى خلف منصب، وهذه كانت نقطة تحوّل جديدة، وانتقلت من السياسة إلى الإنسانية، ومن الرسمية إلى الواقع، ومن تمثيل الدولة إلى تمثيل كل أم تمر بنفس الألم».

وأوضحت: «بعد الخروج من الوزارة بدأت رحلتي مع رامي من جديد، وكنت أمًا تواجه شيئًا لم تفهمه في البداية، في لحظة من اللحظات كنت في أمريكا نظرت إلى السماء، وقلت: ليه؟ ليه كده؟ ثم جاءني الجواب، لا من السماء، بل من أعماق قلبي، والابتلاءات مراحل، تبدأ بالصدمة، ثم الانهيار، ثم التساؤل: ليه أنا؟ ثم تصل إلى الاستسلام، ولكن ليس استسلام الضعف بل استسلام الإرادة، وهنا يبدأ التحول: هل سأكفر؟ أم سأتمسك بالله؟ وأنا اخترت أن أتشبث بربي، وقلت له: أنا مش فاهمة، بس واثقة فيك، وكنت ولا زلت إنسانة أمر بلحظات انهيار لكنني أعود وأقف لأنني يجب أن أستمر».

وأشارت إلى أن: «الرسالة الكبرى كانت واضحة ورامي لم يكن مجرد محنة بل سبب لاكتشاف رسالتي في الحياة، وسألته يومًا: إمتى حسيت إنك عيان؟ قالي: وأنا عندي 10 سنين، وسألته: ليه ما قلتليش؟ قال: م كنتيش هتفهمي وكنتِ هتقوليلي نروح الكنيسة، أو إنك بتهرب من المدرسة، وفعلاً رامي كان صادقًا وهو أخفى مرضه مرض الفصام وتألم في صمت، وهو كان متفوق في دراسته وهادي ومحبوب، وكنا نراه مثاليًا لكن لم نتخيل أنه يُخفي داخله عاصفة، وبعد الحادث بدأنا نحاول تحويل الألم إلى بركة».

حقيبة وزارة الهجرة

حول بدء توليها منصب وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج، قالت مكرم: «لم أكن أمتلك خطة جاهزة أو تصورًا كاملاً عمّا سأقدمه، والوزارة كانت ملغاة منذ سنوات، ولا توجد مرجعية واضحة، ولا ملفات محددة، وكنت في حالة من التوتر والرهبة.. كيف سأبدأ؟ وما الذي يُنتظر مني؟ ماذا يمكن أن أقدم في وزارة لم تكن موجودة من الأساس؟، أديت اليمين أمام رئيس الجمهورية، وأنا لا أعرف من أين أبدأ؟، وكانت أول سنة في المنصب هي الأصعب على الإطلاق، لأني كنت مطالبة بإثبات أن قرار عودة هذه الوزارة كان صائبًا، وأن هناك بالفعل حاجة لدورها».

وأضافت: «بدأت بتأسيس شكل الوزارة من إعداد ملف للمهام، إلى تصميم هوية مرئية (لوجو)، ثم تحديد العلاقات التي يجب أن تُبنى مع وزارتي الخارجية والقوى العاملة، لا على أساس التنافس، بل التكامل، ولم أكن آتي لأزاحم، بل لأكمل المنظومة، وفي تلك السنة، حدثت بعض الوقائع الفردية لمصريين بالخارج، ووجدت نفسي مضطرة للتحرك فورًا، وفي كل مرة كنت أتحرك فيها، كانت الصورة الذهنية عن الوزارة تتغير، فلم تعد الوزارة كيانًا بيروقراطيًا، بل أصبحت تمثل الظهر الذي يحمي المصري المغترب».

وأوضحت: «لم يكن التحرك لأسباب استعراضية، بل لأنني لا أتعامل مع الأمر كوزيرة، بل كإنسانة مسؤولة عن حياة بني وطني، ومنذ نشأتي في الإسكندرية، تربيت على مساعدة الآخرين في الملاجئ، ووسط كبار السن، وفي الأزمات، وطبيعتي كانت الخدمة، لذا حين أسمع عن مصري تعرّض للضرب أو الظلم أو الإهانة في الخارج، لا أتحمل أن أبقى على مكتبي، بل أركب الطائرة وأذهب إليه، وأذكر مرة أنني ذهبت لأحد المصريين في إحدى الدول العربية، وكان مصابًا ومددًا على سرير المستشفى، بينما أنا نفسي كنت أعاني من كتف مخلوع، وقلت له: أنا تحدثت مع الوزيرة هناك وخلصنا مستحقاتك، فقال لي: كل ده مش مهم ووجودك هنا رفع راسي قدام الناس».

ونوهت بأن الوزارة كانت تضم كفاءات نسائية بارزة ولم تكن تمثيلًا شرفيًا بل كل وزيرة كانت تؤدي دورها بكفاءة، مضيفة: «ارتبطت بصداقات إنسانية قوية مع الوزيرات هالة السعيد، وإيناس عبد الدايم، وغادة والي، وهالة زايد، ونيفين جامع، وعلاقتنا لم تكن رسمية فقط، بل كنا صديقات بحق، وكنا نحتفل بالمناسبات معًا، نضحك، ونتشارك الهموم».

تم نسخ الرابط