بعد إعلان ترامب عن رفع العقوبات.. مسارات التحول في العلاقات الأمريكية السورية

شهدت العلاقات الأمريكية السورية تحولًا نوعيًا في الفترة الأخيرة، وذلك في أعقاب إعلان الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” خلال منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، استجابةً لمشاورات مع ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” والرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، كذا لقائه مع الرئيس السوري الانتقالي “أحمد الشرع” على هامش القمة الخليجية – الأمريكية في لقاء هو الأول بين رئيس سوري ورئيس أمريكي منذ لقاء الرئيسين “حافظ الأسد” و”بيل كلينتون” في جنيف عام 2000.
وفقًا لدراسة أعدها المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، في هذا الإطار، اعتنت مراكز الأبحاث الأجنبية بمستقبل التطورات التي قد يشهدها مسار العلاقات الأمريكية السورية، حيث نشر “معهد واشنطن” تقريرًا بعنوان “ترامب يلتقي الشرع: كتابة فصل جديد في العلاقات الأمريكية السورية”، ونشر “المجلس الأطلسي” تقريرًا بعنوان “ردود فعل الخبراء: أعلن ترامب للتو رفع جميع العقوبات الأمريكية عن سوريا. ماذا بعد؟”، بالإضافة إلى تقارير أخرى منشورة عبر “Responsible Statecraft”، و”أوراسيا ريفيو”.
علاقات متنامية:
تؤكد تحركات الإدارة الأمريكية الراهنة الاستعداد لفتح صفحة جديدة مع سوريا، حيث سبق قرار رفع العقوبات الاقتصادية بعض الخطوات، فعلى المستوى السياسي، زار وفد من الكونجرس دمشق يوم 18 أبريل 2025، وذلك للمرة الأولى منذ سنوات، ضم عضوي الكونجرس الأمريكي “كوري ميلز” عن ولاية فلوريدا، و”مارلين ستوتزمان” عن ولاية إنديانا، كما اجتمع وزير الخارجية السوري “أسعد الشيباني” بنظيره الأمريكي “ماركو روبيو” يوم 15 مايو 2025 في بلدية أنطاليا بتركيا بحضور وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” للتباحث حول مسألة العقوبات، بالإضافة إلى استقبال الولايات المتحدة للوفد الوزاري السوري الذي يضم وزيري الخارجية والمالية وحاكم المصرف المركزي، في إطار المشاركة في اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي عُقدت في واشنطن وكانت الزيارة الأولى لوفد حكومي سوري إلى الولايات المتحدة منذ سنوات.
وعلى المستوي العسكري والأمني، بدأت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) عملية دمج وإعادة انتشار قواتها في سوريا، حيث يتوقع أن تخفض عدد القوات إلى النصف، وإنشاء القوات الأمريكية في سوريا قاعدة جديدة لها داخل مدينة عين العرب، كما استمرت جهود القوات الأمريكية في تحييد تنظيم القاعدة لضمان عدم استغلال الوضع الأمني في سوريا، فيما شاركت الولايات المتحدة في التنسيق الاستخباراتي من خلال تحذير سوريا من عمليات إرهابية قد ينفذها تنظيم داعش.
وعلى المستوى الاقتصادي، رجحت وزارة الخزانة الأمريكية إصدارها تراخيص عامة تغطي نطاقًا واسعًا من الاقتصاد السوري لحين رفع العقوبات، خاصةً أن قانون قيصر سيحتاج لفترة انتظار من أجل موافقة الكونجرس على إلغائه، ورحب المدير التنفيذي لشركة “أرجنت” لإنتاج الغاز الطبيعي في لويزيانا “جوناثان باس” – المؤيد الجمهوري للرئيس “ترامب” – بالتعاون مع شركة نفط سورية جديدة، كذا الإشارة إلى الاستعداد لتنفيذ برج ترامب في سوريا، والذي سيضم شققًا سكنية وغرفًا فندقية ومحال تجارية ومكاتب للشركات من قبل شركة “تايجر” للتطوير العقاري التابعة لرجل الأعمال السوري “وليد الزعبي”.
وثمة مجموعة من القضايا الجوهرية التي تمثل محور الاهتمام للسياسة الخارجية الأمريكية إزاء سوريا في الوقت الراهن، وتتضمن محاولة الرئيس ترامب اقناع الرئيس السوري للانضمام إلى اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل والتأكيد على الالتزام باتفاقية سوريا مع إسرائيل المبرمة ١٩٧٤، فضلًا عن المطالبة بترحيل المقاتلين الأجانب والفصائل الفلسطينية التي تصفها الولايات المتحدة بالإرهابية، كذا التنسيق في منع عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتحمّل مسؤولية مراكز احتجاز التنظيم في الشمال الشرقي، والقضاء على الأسلحة الكيميائية، بالإضافة إلى مسألة انخراط الشركات الأمريكية للاستثمار في النفط والغاز السوري.
محددات محفزة:
تكمن أبرز الدوافع الأمريكية للتعامل مع الإدارة السورية الجديدة في رغبة الرئيس “ترامب” في أن تكون للشركات الأمريكية الأولوية والأسبقية على الشركات الصينية بعد تصدر الصين قائمة الدول المتقدمة بطلبات مناقصات مفتوحة تتعلق بمختلف الصناعات في سوريا، كذا التنافس بين القوى العظمى ومخاوف تتعلق بالاستمرار الأمريكي في نهج العقوبات الاقتصادية الذي قد يؤدي إلى فتح الباب أمام الصين وروسيا لكسب نفوذ أكبر في البلاد، لا سيما في مجالي الدفاع وإعادة الإعمار.
إلى جانب ذلك، فإن الولايات المتحدة تتخوف من أن يؤدي نهج العقوبات الاقتصادية إلى فتح الباب أمام تجدد التطرف والإرهاب وعودة ظهور تنظيم داعش، وبالتالي عدم الاستقرار الإقليمي، فضلًا عن الرغبة في الاستفادة من تمويل دول الخليج، وتوفير فرص عمل في كل من سوريا والولايات المتحدة من أجل إظهار دور واشنطن كقوة استقرار، والسعي لإرساء حالة الاستقرار في سوريا من أجل منع وتقليل تدفق اللاجئين، وإضعاف نفوذ حزب الله والحرس الثوري الإسلامي في سوريا، وحتى لا تصبح مصدرًا للتهديدات للجانب الإسرائيلي.
كما لعبت الدول الخليجية خاصةً السعودية ومن خلال ولي العهد الأمير “محمد بن سلمان” دورًا مهمًا في إقناع الرئيس الأمريكي “ترامب” برفع العقوبات وإحداث اختراق دبلوماسي، وعدم التجاوب مع الضغوط الإسرائيلية في هذه المسألة، خاصةً مع توجهات السياسة الخارجية الأمريكية بتوثيق علاقاتها بشكل أكبر بدول الخليج إلى جانب تركيا.
وبالنظر إلى تداعيات التقارب الأمريكي السوري، فإنه يؤدي إلى استمرار الهواجس الأمنية للمسئولين الإسرائيليين من تاريخ الرئيس “الشرع”، ومن أن يؤدي ذلك التقارب لتقييد حرية إسرائيل وتحركاتها في سوريا بعد فشل مساعيها في الضغط على إدارة ترامب لتجنب التحركات التي قد تضفي الشرعية على الحكومة السورية الجديدة أو تخفيف الضغوط عليها. في المقابل أغفلت التقارير سالفة الذكر التحركات والمفاوضات الراهنة بين سوريا وإسرائيل، كذا التحول النوعي والجذري في التصريحات الإسرائيلية الأخيرة إزاء الإدارة السورية، حيث أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي “جدعون ساعر” للمرة الأولى عن وجود رغبة إسرائيلية في إقامة علاقات جيدة مع الإدارة السورية الجديدة رغم انتقاداته السابقة لها.
كما تُمثل التطورات الراهنة ضربةً استراتيجيةً كبيرة للجانب الايراني خاصةً أن سقوط نظام الرئيس السابق “بشار الأسد”، وصعود حكومة معادية لطهران قد أدى إلى قطع حلقة الدعم الإيراني لشبكة حلفائها ووكلائها الإقليميين، كما أن الحكومة الجديدة لم تُظهر اهتمام يُذكر بإقامة علاقات مع طهران، وأخيرًا، فقد يلعب التقارب الأمريكي السوري دورًا في تضاؤل النفوذ الروسي في سوريا بطبيعة الحال، خاصةً في ظل رغبة الولايات المتحدة والدول الأوروبية بإنهاء الوجود الروسي، وبالرغم من احتفاظ موسكو بقواعد عسكرية على الساحل السوري، فإن الحكومة السورية الجديدة أكدت على أن الوجود الروسي المستقبلي سيعتمد على اتفاقيات تخدم المصالح السورية.
مسارات محتملة:
من المحتمل بدء الولايات المتحدة وسوريا في عملية إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، من خلال إعادة فتح السفارة الأمريكية في سوريا، وتشجيع المسئولين السوريين على ضرورة تمثيلهم في واشنطن.
من المرجح أن تتبنى واشنطن عملية وساطة وتهدئة بين الجانبين السوري والإسرائيلي من خلال تسهيل جولة المحادثات القائمة بقيادة الإمارات وتحديد الشروط أو تقديم ضمانات أمنية تتعلق بانسحاب إسرائيلي من الأراضي التي سيطرت عليها في سوريا بعد سقوط نظام “بشار الأسد”.
التأني في تناول مسألة المقاتلين الأجانب لاسيما أن مغادرتهم ليس أمرًا سهل المنال، ووجود ثلاث مجموعات رئيسية من المقاتلين الأجانب، وبالتالي فإن جعل هؤلاء عديمي الجنسية قد يخلق تحديات خطيرة لمكافحة الإرهاب، لذلك قد تتجه الولايات المتحدة نحو قيام الرئيس السوري بتجنيس المقاتلين الأجانب من هيئة تحرير الشام، حتى تتمكن دمشق من السيطرة على أنشطتهم.
التركيز على وضع الأكراد لا سيما فيما يتعلق بأليات وسبل دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وإدارتها المدنية في الحكومة السورية الجديدة من خلال العمل مع حكومة دمشق على تهدئة مخاوف الأكراد وتجنب احتكار السلطة، مع التركيز على أهمية وضع جدول زمني لسيطرة دمشق على مراكز الاحتجاز التي تضم أعضاء داعش وعائلاتهم.
وختامًا، يمكن القول إن التحول البراجماتي في موقف الولايات المتحدة بقيادة الرئيس “دونالد ترامب” تجاه الإدارة السورية الجديدة، وبعد أن كانت بطيئة ومترددة في التعامل معها خوفًا من ماضيها، إنما يرتبط بالمقاربة المتزنة التي اتبعها الرئيس السوري خلال تصريحاته الأخيرة القائمة على استقطاب وتهدئة المخاوف الأمريكية والتعاطي بشكل إيجابي مع المطالب الأمريكية من خلال التأكيد أن الحكومة السورية تضمن لجميع دول العالم، أن المقاتلين الأجانب لن يشكلوا خطرًا على أي من الدول المجاورة، ولن يُلحقوا الضرر ببلدانهم التي جاؤوا منها، وعلى إمكانية منحهم الجنسية طبقًا لما سيؤول إليه الدستور السوري الجديد، فضلًا عن تهدئة المخاوف فيما يخص التوترات مع الجانب الإسرائيلي من خلال التواصل معهم عبر وسطاء وكذلك الأكراد من خلال الاتفاق مع قائد قوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” وتوقيع اتفاقية معها في مارس 2025، والإشارة إلى استعداده لإبرام صفقات تسمح لشركات النفط والغاز الأمريكية بالقيام بأعمال تجارية وحق الوصول إلى النفط والغاز السوري.