عاجل

لم تكن مصر القديمة حضارة أهرامات ومقابر فحسب ، بل كانت حضارة مُتكاملة ارتكزت على منظومة تربوية كاملة ، فقد أدرك المصريون القدماء منذ آلاف السنين أن الإنسان هو محور البناء والتقدم ، وأولوا التربية القويمة أهمية كبرى باعتبارها أداة لتشكيل الفرد الصالح وضمان استمرارية النظام الأخلاقي والاجتماعي والديني للدولة.

فلم يُنظر إلى التربية على أنها مجرد نقل للمعرفة ، بل كانت عملية شاملة تهدف إلى تنمية الأخلاق وغرس القيم وتعليم المهارات وتوجيه الفرد ليكون عضوًا نافعًا فى مجتمعه. وقد قال الحكيم "بتاح حتب" فى واحدة من أشهر نصوصه التربوية "إن الابن المهذب هو مرآة والده ، والسلوك القويم أبلغ من مئة قول". هذا المفهوم الشامل للتربية يعكس وعيًا حضاريًا متقدمًا بدور التنشئة فى استقرار المجتمع وتماسك الدولة.

كانت الأسرة حجر الأساس فى العملية التربوية حيث كان الأب يعلم أبناءه الحكمة والاحترام ، بينما تغرس الأم فى أطفالها مبادئ الطاعة والنظافة والانضباط. وقد جاءت نصوص عديدة تؤكد على أهمية القدوة داخل البيت ، وعلى أن الطفل يتعلم من أفعال والديه أكثر مما يتعلم من أقوالهم.

شكلت الأخلاق عماد التربية المصرية ، فكانت القيم مثل الصدق والعدل والاحترام والتواضع والإخلاص فى العمل تُعد من أهم الركائز أساسية فى المجتمع ، وكانت هذه القيم تُغرس فى الطفل منذ نعومة أظفاره من خلال القصص والأمثال والتعاليم والنماذج الحية التي يكتسبها.

أما الجانب الديني فكان حاضرًا فى كل مراحل التربية ، إذ كان الطفل منذ الصغر يتعلم مفاهيم العدالة الإلهية ومحاسبة الروح فى الحياة الأخرى ، مما أسهم فى خلق جيل يخشى الظلم ويحرص على النزاهة ، لا خوفًا من الناس بل من أجل إقامة ميزان العدالة التي تربى عليها.

وإلى جانب التعليم النظري كانت هناك تربية عملية تُعد الطفل للعمل ، سواء فى الزراعة أو الحرف أو الكهنوت أو الإدارة ، وكان يُدرب على المسؤولية والاتقان ، وقد ورد "علم ابنك الحرفة قبل أن تعلمه الحديث ، فإن اليد العاملة لا تجوع والكلام وحده لا يُطعم."

بفضل هذه المنظومة التربوية المتكاملة استطاعت مصر القديمة أن تحافظ على استقرارها لقرون طويلة ، فالفرد كان مرتبطًا بمسؤولياته ومندمجًا فى مجتمعه ، ومحكومًا بقيم تجعله يُقدم الواجب على المصلحة ويضع الجماعة فوق الذات. لقد أدرك المصريون أن الأخلاق هى حارس الحضارة ، وأن العلم من دون تهذيب لا يبني بل يهدم.

لقد سبقت مصر القديمة حضارات كثيرة فى إدراك أهمية التربية ، واعتبرتها استثمارًا طويل الأجل فى بناء الإنسان ، وإذا كان العصر الحديث يفتش عن حلول لأزمات التعليم والانحراف القيمي ، فإن العودة إلى هذه الجذور المصرية الحضارية القديمة والتي جمعت بين العقل والقلب وبين المهارة والمبدأ قد تكون أحد المفاتيح الغائبة.

تم نسخ الرابط