عاجل

"إذا نظرنا إلى متوسط العمر في العديد من الدول، نجد أن متوسط العمر في أوروبا بلغ نحو 45 عامًا، بينما في مصر يبلغ متوسط العمر 24 عامًا، هذا الفارق يبرز بوضوح حقيقة أن مصر تمتلك جيلًا شابًا قويًا وقادرًا على دفع عجلة التنمية إلى الأمام".. هكذا تحدث رجل الاعمال المصري أحمد السويدي في أبريل 2025.

تصريح السويدي يحمل إدراكاً نادراً للفرص الاقتصادية الهائلة التي تحملها التركيبة السكانية لمصر اليوم.. للأسف فإن النقاش حول سكان المحروسة اليوم يتمحور حول الأبعاد السلبية من نمو سكاني وزيادة الفقر، فيما يصبح الصوت النشاز هو الحديث عن دخول مصر مرحلة "السنوات الديموجرافية الذهبية" .. هذه السنوات التي بدأت بشائرها مع تراجع معدلات النمو السكاني إلى 1.4% سنوياً خلال 2024 مقابل 2.4% خلال 2014، وبالتوالي انخفاض نسبة الأطفال تحت 15 عاماً إلى نحو 33 مليون طفل بنسبة 31% من السكان وارتفاع نسبة السكان الناشطين اقتصادياً (15-64 عاماً) إلى 63%.

مصر عثرت أخيراً على الكنز الديموجرافي الذي بقى مدفوناً تحت ركام معدلات النمو السكانية المرتفعة طوال عقدين من الزمان، فقد هبت أخيراً رياح التي تشتهيها سفن الاستثمارات المصرية والأجنبية، بسبب تراجع أعباء الانفاق على الأطفال مع توفر قوة عاملة ضخمة وماهرة..

وعودة لحديث السويدي الذي قال، في منتدى الأعمال المصري – الفرنسي، إن "مصر تمتلك الفرصة لتكون قوة اقتصادية إقليمية وعالمية إذا تم توجيه هذه طاقة الشباب نحو مشروعات تنموية استراتيجية، حيث إن جيل الشباب في مصر يمتلك قدرة على التكيف والتطور في عالم سريع التغير".

إن ملاحظة السويدي بشأن قدرة الشباب المصري على التكيف والتطور لمواكبة بيئة العمل التنافسية، تؤكدها دراسة أخيرة على أن نسبة كبيرة من الشباب المصري على استعداد لتعلم مهارات جديدة لتستطيع مواكبة التحولات في سوق العمل.

استعداد الشباب المصري لتطوير مهاراته للحصول على فرص عمل أفضل يدلل عليه الطلب المتزايد على التطبيقات الخاصة بتعلم مهارات الذكاء الاصطناعي واللغات.. ولكن في المقابل، فإن المؤسسات الحكومية مازالت تسير بوتيرة ومنطق البيروقراطية القديمة التي ترى أن تعليم مجموعة من الشباب التعامل مع الكمبيوتر انجازاً تاريخياً وتقيم لها دورات..الدليل على عقم التفكير البيروقراطي المصري يظهر جلياً في ما عرف بدورات "التحول الرقمي" التي تطبقها الجامعات على الطلاب للحصول على شهادات التخرج والماجستير والدكتوراة وهي دورات بعد الإطلاع عليها مازالت تحبو في الأساسيات وتقوم على الحفظ وتحولت إلى ما يشبه "الصنم" دون البحث عن الفهم التكنولوجي أو تطوير التعامل مع الذكاء الاصطناعي.

سنوات العائد الديموجرافي الممتدة

البيانات المتوفرة تشير بوضوح إلى أن مصر على موعد مع سنوات "العائد الديموجرافي" خلال السنوات الخمس المقبلة، وإنها ستصبح بيئة مثالية لتوفير العمالة الماهرة والمدربة بحلول 2030، حيث إن طلاب الجامعات الحكومية والخاصة في مصر ارتفع إلى نحو 650 ألف طالب في العام الدراسي 2024/2025 بنحو 38% من مواليد عام 2006 وهي نسبة تقارب النسبة للمنخرطين في التعليم الجامعي من مواليد نفس العام بالولايات المتحدة..

القدرة على مقارنة مصر بالولايات المتحدة في سياق التعليم الجامعي والقوة البشرية جاءت نتيجة ارتفاع الطلب على التعليم الجامعي خلال السنوات الماضية بفعل إدراك مجتمعي لأهمية تطوير المهارات والحصول على قدر كاف من التعليم للحصول على مكان في سوق عمل متغير وصعب، بالتوازي مع ارتفاع عدد الجامعات إلى 116 جامعة مقابل 50 فقط قبل 12 عاماً، فيما ارتفع أعداد الطلاب الملتحقين بقطاعات الذكاء الاصطناعي والرقمنة والحاسب الآلي والتكنولوجيا بالجامعات المصرية خلال العام الدراسي الحالي بنحو 40% مقابل العام الدراسي السابق.

إن المجتمع المصري وخاصة الشباب أصبح يدرك أهمية التعليم والانفاق على تعلم المهارات التكنولوجية، هذا الإدراك الذي تخفيه محاولات تقليدية إلى اعتبار الأجيال الأصغر أقل تحملاً للمسؤولية والبحث عن "ترند" مواقع التواصل الاجتماعي الذي يتغذى في الأغلب لظواهر سلبية يحمل كل شباب مصر مسؤوليتها مع أنها تحدث في كل مكان بالعالم..

إن الاجيال التي تجاوزت العقد الخامس من عمرها في المحروسة ترتدي نظارة سوداء خلال مراقبتها المشهد المجتمعي، ولكن شجرة الحياة "خضراء".. ففي زيارة اخيرة لأحدى الجامعات في مدينة جديدة قرب القاهرة، شاهدت تدفق حيوي غير تقليدي من الشابات، حيث كانت "نون النسوة" تحتل الجزء الأكبر من مدرجات الكليات، وكانت مدرجات الكليات العملية وذات العلاقة بالتكنولوجيا هي الأكثر ازدحاماً.

هذا المشهد يمكن ترجمته بلغة الأرقام بارتفاع نسبة "أحلى الكائنات" في الجامعات المصرية إلى نحو 49% من إجمالي الطلاب في العام الدراسي 2024/2025. وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ مصر منذ أن باعت الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل بعض من مجوهراتها لاستكمال بناء الجامعة المصرية (جامعة القاهرة).. ولو كانت الأميرة فاطمة بيننا اليوم لانبهرت بعدد الفتيات اللاتي يختبرن طريق التعليم الجامعي في مصر.

إن كل ما سبق يؤسس للسنوات الذهبية للاقتصاد المصري التي ستكون فيها القوة البشرية الهائلة من الشباب هي رافعتها وستدفع إلى تحقيق وفرات ملموسة في مخصصات الموارد التي يمكن استخدامها لتعزيز مهارات وقدرات الأفراد في سن العمل وكذلك ستزيد من إجمالي الانتاجية ونصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي مما سيحقق في حال تطبيق سياسات ملائمة لهذه التحولات مستوى أفضل من الرفاهة للسكان في مصر.

تم نسخ الرابط