القاهرة تقود تحالف الغاز ضد تل أبيب.. مناورة سياسية واقتصادية تكسر الابتزاز

صيف مشتعل سياسيًا وجغرافيًا، تخوض مصر واحدة من أعقد معارك الطاقة في تاريخها الحديث، بين ضغوط إسرائيلية تطالب برفع أسعار الغاز، واحتياج محلي متزايد لتأمين احتياجات الكهرباء والصناعة، وجدت القاهرة نفسها في مفترق طرق استراتيجي، اختارت فيه إعادة مركزها شرقًا، نحو تحالف جديد مع أنقرة والدوحة، في مناورة وصفت بأنها الأكبر منذ عقد.
الابتزاز الإسرائيلي يفتح الباب للمناورة
تعود الوقائع الى مطالبات إسرائيلية مفاجئة برفع سعر الغاز بنسبة 40%، رغم اتفاقية طويلة الأجل موقعة عام 2018 تنص على أسعار ثابتة، وردًا على الرفض المصري، أوقفت تل أبيب ضخ الغاز لمدة أسبوعين، ما أجبر القاهرة على اتخاذ قرارات عاجلة، أبرزها خفض إمدادات الغاز لمصانع الأسمدة والميثانول بنسبة 50%.
الدكتور صلاح حافظ، رئيس هيئة البترول الأسبق، يؤكد أن اتفاقية التوريد مع إسرائيل جاءت بعد اكتشافات ضخمة دفعتها للبحث عن أسواق، مضيفًا أن مصر باتت المنفذ الوحيد لصادرات الغاز الإسرائيلي، لافتقار تل أبيب إلى تسهيلات إسالة أو خطوط مباشرة لأوروبا. إلا أن الأوضاع تغيرت مع تأخر سداد المستحقات من الجانب المصري، ما دفع إسرائيل للضغط بورقة التحكيم الدولي وخطط بديلة، أبرزها إنشاء خط أنابيب عبر كريت إلى أوروبا.
استراتيجية "الشرق البديل"
في خضم هذا التصعيد، لم تقف القاهرة مكتوفة الأيدي. بحسب مصادر خاصة لـ"نيوز رووم"، بدأت مصر تفعيل تفاهمات طاقوية مع تركيا وقطر، تضمنت مفاوضات لتوقيع عقود طويلة الأجل مع شركة "قطر للطاقة"، ودراسة مشروعات استكشاف جديدة في مناطق الامتياز المصرية.
وفي خطوة أكثر دلالة، كشف المهندس مدحت يوسف، نائب رئيس هيئة البترول الأسبق، أن تسهيلات العين السخنة تُعد الأنسب لاستقبال شحنات الغاز من قطر، بينما تبقى محطة إدكو الخيار الأفضل لاستقبال الغاز الروسي، حال تخطي العقوبات الغربية.
أما تركيا – التي لا تملك إنتاجًا كافيًا – فقد يتمثل دورها في لعب حلقة وصل لنقل الغاز الروسي أو الأذري، وهو سيناريو ما زال معقدًا بفعل القيود الغربية المفروضة على موسكو.

رسائل سياسية خلف خطوط الغاز
التحرك المصري، وإن بدا اقتصاديًا في ظاهره، إلا أن خبراء يرونه أداة من أدوات السيادة والردع السياسي. مصدر حكومي بارز قال في تصريحات خاصة: "اتفاق 2018 واضح. أي محاولة لرفع الأسعار بشكل أحادي غير قانونية. ما نقوم به الآن ليس رفاهية، بل تحوّط استراتيجي".
رسائل التحالف الجديد لم تتوقف عند طاولة الغاز. فاختيار تركيا وقطر – رغم ما شاب العلاقات من توترات – يعكس مرونة سياسية لافتة. ووفق مراقبين، فإن ملف الطاقة تحوّل إلى أحد أذرع السياسة الخارجية المصرية في مواجهة التحولات الإقليمية العاصفة.
تحديات لوجستية وجغرافية
غير أن هذا التحرك لا يخلو من مخاطر،حيث حذر الدكتور رمضان أبو العلا، أستاذ هندسة البترول، من التكلفة المرتفعة لنقل الغاز عبر مضيق باب المندب، الذي يشهد اضطرابات متصاعدة. "استيراد الغاز القطري محفوف بمخاطر سياسية وأمنية. الأفضل التوجه للجزائر أو ليبيا حال استقرار الأوضاع"، يوضح أبو العلا.
في المقابل، تعتبر استثمارات قطر المتنامية في قطاع الغاز المصري – والتي تشمل امتيازات في سبع مناطق استكشاف – مؤشرًا على شراكة طويلة الأمد، قابلة للتطور، خاصة مع تسارع مشروعات الاستكشاف والإنتاج.
ما بعد الأزمة: هل تخرج مصر أكثر قوة؟
يري المحللين أن سوق الطاقة في مصر دخل مرحلة من إعادة الهيكلة القسرية، فالأزمة الحالية فتحت الباب أمام تحالفات جديدة، وسيناريوهات لم تكن مطروحة قبل شهور. ومع اقتراب موسم الذروة، تبقى الأيام القادمة حاسمة في تحديد مستقبل منظومة الغاز في مصر، بين تأمين الاحتياجات المحلية والحفاظ على مكانة البلاد كمركز إقليمي للطاقة.
وإذا كان قطاع الصناعة يعاني حاليًا من تداعيات الخفض المؤقت للإمدادات، فإن الرهان على تنويع مصادر الغاز قد يحمل في طياته مكاسب استراتيجية بعيدة المدى. يقول أحد المحللين: "قد نكون أمام بداية نظام طاقة أكثر توازنًا وأقل خضوعًا للضغوط الخارجية".
خاتمة: الغاز.. سلاح القاهرة الجديد؟
في شرق المتوسط المتقلب، لم تعد أنابيب الغاز مجرد أنابيب، بل باتت شرايين سياسة، ومعارك سيادة، وأدوات تفاوض. وبين تل أبيب التي رفعت السقف، وأنقرة والدوحة اللتين فتحتا الأبواب، تبدو القاهرة وكأنها ترسم خريطة جديدة للطاقة في المنطقة – خريطة عنوانها: لا ابتزاز بعد اليوم.