بعد تطور التصعيد .. مستقبل وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان

أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، يوم العاشر من مايو الجاري، عن اتفاق الهند وباكستان على وقف إطلاق نار شامل وفوري، وذلك بعد محادثات بوساطة الولايات المتحدة. ولاحقًا، أكدت باكستان التوصل إلى الاتفاق، وأضافت الهند وقف الجانبين إطلاق النار والعمل العسكري، على الأرض والجو والبحر اعتبارًا من الساعة 17:00 بتوقيت الهند، على أن يتحدث الجانبان مُجددًا يوم الاثنين 12 مايو.
ووفقًا لدراسة أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، وضع هذا الإعلان حدًا لما خشاه الكثيرون خلال الأيام الماضية من تحول التصعيد المتبادل إلى حرب شاملة بين القوتين النوويتين، ليست تدفع فقط منطقة جنوب آسيا، وإنما العالم أجمع نحو المزيد من اللايقين وعدم الاستقرار.
تطور التصعيد
يعد هذا التصعيد بمثابة أحدث حلقات النزاع الهندي الباكستاني الممتد منذ عقود حول إقليم كشمير، والذي يشهد شطره الهندي، بين الحين والآخر، هجمات إرهابية، تُحيل الهند مسئولية تنفيذها إلى الجماعات المسلحة المتمركزة في باكستان، وتتهم الأخيرة بتقديم دعم ضمني لهذه الجماعات، وهو الأمر الذي تنفيه باكستان باستمرار.
وتعود إرهاصات التصعيد الأخير إلى هجوم “باهالغام” الإرهابي الذي وقع في الشطر الهندي من كشمير، يوم الثاني والعشرين من أبريل الماضي، وأسفر عن مقتل ما لا يقل عن 26 سائحًا (25 مواطنًا هنديًا ومواطن نيبالي واحد)، واتهمت نيودلهي بمقتضاه جماعة “عسكر طيبة” الموجودة في باكستان، بتنفيذ هذا الهجوم، كما وجهت اتهامًا أيضًا إلى إسلام أباد بدعمها الإرهاب العابر للحدود.
وبناءً عليه، أعلنت وزارة الخارجية الهندية، عقب ساعات قليلة من هذا الهجوم، عن مجموعة من الإجراءات التصعيدية، والتي تضمنت عدم السماح للمواطنين الباكستانيين بالسفر إلى الهند بموجب برنامج الإعفاء من التأشيرة لرابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (SVES)، إلى جانب تقليص الحضور الدبلوماسي الباكستاني، وإعلان مستشاري الدفاع والبحرية والجوية في المفوضية الباكستانية العليا في نيودلهي أشخاصًا غير مرغوب فيهم، بجانب سحب الهند لمستشاريها الدفاعيين والبحريين والجويين من المفوضية الهندية العليا في إسلام أباد، واعتبار هذه الوظائف في المفوضيتين لاغية.
من جانبها، اعتبرت باكستان أن هذه الإجراءات تتسم بكونها أحادية الجانب وغير عادلة ولا أساس قانوني لها، خاصة في ظل غياب أي تحقيق موثوق أو أدلة مؤكدة تُثبت ارتباط باكستان بالهجوم الإرهابي، مُعلنةً عن اتخاذها لمجموعة من الإجراءات المماثلة، بجانب إغلاق مجالها الجوي أمام جميع شركات الطيران المملوكة للهند أو التي تديرها، وتعليق جميع التعاملات التجارية مع الهند، بما في ذلك من وإلى أي دولة ثالثة عبر باكستان.
فيما يعد الإجراء الأكثر خطورة والذي أعلنته الهند عقب الهجوم هو تعليق معاهدة مياه السند لعام 1960، وذلك “إلى أن تتخلى باكستان بشكل موثوق لا رجعة فيه عن دعمها للإرهاب العابر للحدود”. وتكمن خطورة هذا الإجراء في طبيعة هذه المعاهدة، المُوقعة منذ عام 1960، برعاية البنك الدولي، والتي صمدت برغم خوض الجانبين لثلاثة حروب أعوام 1965 و1971 و1999. ومن ثَمّ، ينذر تعليق الهند للمعاهدة بدخول متغير جديد من شأنه تغذية دورة هذا الصراع الممتد.
وقد رفضت باكستان بشدة القرار الهندي، مؤكدة على أن أي “محاولة لوقف أو تحويل تدفق المياه التي تخص باكستان بموجب معاهدة مياه نهر السند، ستُعتبر عملًا حربيًا، وسيتم الرد عليها بكل قوة وحزم”. وأعلنت أيضًا عن تعليق جميع الاتفاقيات الثنائية مع الهند، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر، اتفاقية “شيملا” (الموقعة في يوليو عام 1972 والتي هدفت إلى إنهاء الصراع والمواجهة بين الجانبين وتطبيع العلاقات)، حتى تكف الهند عن سلوكها الواضح المتمثل في إثارة الإرهاب داخل باكستان، وعمليات القتل العابرة للحدود الوطنية، وعدم الالتزام بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة بشأن كشمير”.
وردًا على اتهامات الهند بخصوص الدعم الباكستاني للجماعات الإرهابية، أكدت إسلام أباد في أكثر من موضع امتلاكها أدلة دامغة على الإرهاب الذي ترعاه الهند في باكستان. وفي هذا السياق، نظّم المتحدث العسكري الباكستاني، الفريق أول “أحمد شريف شودري”، مؤتمرًا صحفيًا، يوم الثلاثين من أبريل، استعرض خلاله ما وصفه بـ “كيفية تنفيذ الهند للإرهاب داخل باكستان”، مشيرًا إلى أن لدى وكالات الأمن الباكستانية معلومات استخباراتية تفيد “قيام الهند بتنشيط شبكاتها الإرهابية لتنفيذ هجمات داخل باكستان”.
وبحلول فجر يوم السابع من مايو، أعلنت الهند عن تنفيذ عملية “سيندور”، والتي استهدفت تسعة مواقع في باكستان، وصفتها نيودلهي بأنها تضم “بنى تحتية إرهابية”، مضيفة بأن العملية كانت “مُركزة ومدروسة وغير تصعيدية بطبيعتها”، واستهدفت حصرًا “البنية التحتية الإرهابية”. في المقابل، أكد وزير الدفاع الباكستاني “خواجة محمد آصف”، بأن جميع المواقع التي استهدفتها الهند هي مواقع مدنية، من بينها مسجدين وليست معسكرات للمسلحين. فيما أعلن الجيش الباكستاني عن تمكنه من إسقاط خمس طائرات مقاتلة هندية في ولاية البنجاب الهندية وكشمير التي تديرها الهند، بينما أقرت الهند فقدانها طائرتين حربيتين على الأقل داخل حدودها، لكنها لم توضح سبب تحطمهما.
ومنذ ذلك الحين، استمر قصف المدفعية الثقيلة عبر خط السيطرة الفاصل بين شطري كشمير الخاضعين للإدارة الهندية والباكستانية؛ الأمر الذي أسفر عن مقتل وجرح عشرات المدنيين من كلا الجانبين. وذلك، وصولًا إلى صباح يوم العاشر من مايو الجاري، حين أعلن الجيش الباكستاني عن بدء عملية “البنيان المرصوص”، والتي استهدف في إطارها منشأة تخزين صواريخ وقواعد جوية هندية في باثانكوت وأودهامبور، وذلك في أعقاب إطلاق الهند صواريخ على ثلاث قواعد جوية باكستانية. وبحسب مصادر عسكرية باكستانية، فقد قصف الجيش الباكستاني 36 هدفًا مختلفًا في الهند.
نحو وقف إطلاق النار
منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، كلما اقتربت الهند وباكستان من الحرب الشاملة، تنجح جهود الوساطة والدبلوماسية المكثفة، لا سيما من جانب الولايات المتحدة، في خفض التصعيد وإنهاء التوتر بين الجانبين؛ الأمر الذي يمكن رؤيته في محطات عدة للصراع بين الجانبين.
ففي عام 1999، نجحت الوساطة الأمريكية في إنهاء صراع “كارجيل”، والذي اندلع نتيجة عبور القوات الباكستانية خط السيطرة إلى الجزء الذي تديره الهند من كشمير. وفي أعقاب شن إرهابيين، يزعم ارتباطهم بجماعات عسكر طيبة وجيش محمد المتمركزة في باكستان، لهجوم داخل البرلمان الهندي عام 2001، نجحت الوساطة الأمريكية في تجنب الحرب. كما ساعدت الدبلوماسية الأمريكية التي تدخلت في أعقاب هجمات مومباي عام 2008، والتي نفذها إرهابيون مرتبطون بجماعة “عسكر طيبة” وأسفرت عن مقتل 166 شخصًا، في تخفيض خطر تصعيد الصراع.
وفي عام 2019، نجح الضغط الدبلوماسي الأمريكي في خفض التصعيد الذي تأجج عقب تفجير “بولواما”، والذي أسفر عن مقتل 40 فردًا من القوات الأمنية الهندية. وبحسب وزير الخارجية الأمريكي حينها “مايك بومبيو”، من غير المعتقد أن العالم يعلم على وجه الدقة مدى اقتراب التنافس بين الهند وباكستان من التحول إلى حرب نووية في فبراير 2019”.
وفي إطار التصعيد الأخير، لم تبدِ الولايات المتحدة في بداية تصاعد التوترات اهتمامًا كبيرًا بالتدخل. ولكن، بحسب تقرير صحيفة الجارديان، نقلًا عن مسئولين أمنيين واستخباراتيين باكستانيين، مع تصعيد الجانبين للصراع، اتضح للإدارة الأمريكية ضرورة التدخل لوقف التصعيد الذي بات يشكل خطرًا، ليس فقط على المنطقة بل على العالم أجمع، إذ بات التهديد النووي “احتمالًا واقعيًا للغاية”، خاصة بعد شن الهند هجمات على القواعد الباكستانية الثلاث.
وبناءً عليه، كلف الرئيس الأمريكي وزير خارجيته “مارك روبيو” بالتحدث إلى الجانب الباكستاني، فيما تولى نائب الرئيس “جي دي فانس” التواصل مع الجانب الهندي. وبحلول الساعة الثانية والنصف من ظهر يوم السبت، العاشر من مايو، تحدث قائدا العمليات العسكرية في كل من باكستان والهند هاتفيًا لأول مرة منذ اندلاع الأعمال العدائية، حيث اتفقا على بدء وقف إطلاق النار الساعة الرابعة عصرًا. ولكن بعد ورود تقارير عن إطلاق نار عبر الحدود وتحليق طائرات بدون طيار على طول خط السيطرة، تم تأجيل الأمر إلى الساعة الخامسة.
ومنذ تلك اللحظة، بدأ الجانبان الهندي والباكستاني في تقديم روايات مختلفة حول طبيعة الاتفاق، ودور الوساطة الدولية ومستقبل المحادثات. فبحسب المدير العام للعمليات العسكرية الهندية، تلقى رسالة من نظيره في باكستان، يوم السبت العاشر من مايو، يطلب فيها إجراء اتصالات. بينما أشار المتحدث العسكري الباكستاني، الفريق الأول أحمد شريف شودري، خلال مؤتمر صحفي عُقد يوم الحادي عشر من مايو الجاري، إلى أن الجانب الهندي قد طلب وقف إطلاق النار بعد الثامن والتاسع من مايو، أي بعد بدء عمليتهم. ولكن، أبلغ الجانب الباكستاني أنهم سيتواصلون معهم بعد تنفيذ الرد. وأضاف “شودري” بأن باكستان قد تواصلت بعد عمليتها العسكرية مع الجهات الدولية المعنية، واستجابت لطلب وقف إطلاق النار.
وبذلك، يبرز الاختلاف الثاني، المرتبط بدور الوساطة الدولية في وقف إطلاق النار. فبينما لم يشر الجانب الهندي إلى دور الوساطة في التوصل إلى هذا الإعلان، مؤكدًا، بدلًا عن ذلك، بأنه نتيجة لاتصالاته الثنائية مع الجانب الباكستاني، أكد الجانب الباكستاني على محورية دور الوساطة الدولية. فقد وجه رئيس الوزراء “شهباز شريف” الشكر للرئيس الأمريكي على دوره الصادق في وقف إطلاق النار، كما شكر المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وتركيا وقطر والمملكة المتحدة والأمين العام للأمم المتحدة وغيرهم ممن لعبوا دورًا في وقف إطلاق النار.
فيما يعزو الاختلاف الثالث في وصف كلا الجانبين لطبيعة الإعلان، فبينما يؤكد الجانب الباكستاني على توصيفه بكونه اتفاقًا لوقف إطلاق النار، أوضح وزير الخارجية الهندية في إعلانه عن الهدنة بأنه قد توصل الجانبان إلى “تفاهم” بشأن وقف إطلاق النار والعمل العسكري، بما يشير إلى رؤية الهند إلى الهدنة باعتبارها تفاهم غير ملزم؛ الأمر الذي يتسق مع الخطاب الهندي الرسمي والذي يؤكد على استمرار مراقبة نيودلهي لسلوك باكستان.
ويرتبط الاختلاف الرابع في رؤية كلا الجانبين لمحتوى المحادثات اللاحقة، إذ يصر الجانب الهندي على أنها ستدور فقط حول تأمين وقف إطلاق النار، فيما يأمل الجانب الباكستاني بأن تتطرق المحادثات إلى مسألة تعليق الهند لمعاهدة مياه السند.
محددات وقف إطلاق النار
يمكن النظر في مجموعة من المحددات التي قد تضمن استمرار التزام الجانبين بخفض التصعيد ووقف إطلاق النار:
إدراك حدود التصعيد: برغم تبادل الجانبين الاتهام بانتهاك اتفاق/ تفاهم وقف إطلاق النار، أكد الطرفان التزامهما بتنفيذ وقف لإطلاق النار وضبط النفس، بما يشير إلى رغبتهما في عدم تجدد دورة التصعيد والاكتفاء بما كشفت عنه ضرباتهما المتبادلة من رسائل تحذيرية وقدرات عسكرية متطورة. فمن ناحية، أرادت الهند التأكيد على قاعدتها التي أسستها منذ عام 2016 في مواجهة أي استهداف إرهابي لأراضيها. بعبارة أخرى، تؤكد عملية “سيندور” على استعداد الجيش الهندي استهداف أي جزء من الأراضي الباكستانية، طالما استمر دعم إسلام أباد للجماعات الإرهابية المُعادية للهند. في المقابل، اتجهت باكستان نحو استهداف قواعد عسكرية هندية، بما يضمن إبراز قدرة إسلام أباد على الرد.
وبذلك، استطاع الجانبان إلحاق قدر من الضرر بالطرف الآخر، بما يضمن عدم تصعيد الصراع إلى حرب كبرى، إذ تدرك القوتان النوويتان عدم قدرة أي منهما على تحقيق الانتصار الكامل بالحرب دون التسبب في دمار هائل للمنطقة، هذا فضلًا عن التكلفة الاقتصادية لمثل هذه الحرب والتي لن تستطيع إسلام أباد تحملها في ظل أزمتها الاقتصادية الراهنة، والتي تسعى جاهدة إلى معالجتها عبر التعاون مع صندوق النقد الدولي، الذي وافق قبل يوم من إعلان وقف إطلاق النار على منح إسلام أباد شريحة تمويل بقيمة 1.4 مليار دولار.
ومن ثَمّ، يبدو تطوير التصعيد إلى حرب كبرى في غير مصلحة باكستان التي تنشد استقرار تعاونها القائم مع صندوق النقد الدولي؛ الأمر الذي سيسهم بدوره في الحفاظ على ثقة المستثمرين. كما من شأن خفض التصعيد مع باكستان أن يسهم في استمرار العمل بمشاريع البنية التحتية الكبرى بالبلاد، كتلك التي تتولى الصين تنفيذها ضمن مبادرة الحزام والطريق.
فيما ستقوض الحرب الكبرى من طموح الهند المرتبط بالتحول إلى مركز عالمي للتصنيع. من ناحية أخرى، قد لا تفضل الهند تطور التصعيد إلى حرب كبرى، لما سيعنيه من توجيه للموارد والقدرات العسكرية نحو الصراع مع باكستان، وذلك في الوقت الذي لم تصل في صراعها الحدودي مع الصين إلى حل حاسم. فعلى الرغم من توصل الجانبين في أكتوبر 2024 إلى ترتيب بشأن تسيير دوريات عسكرية على طول الحدود المتنازع عليها؛ الأمر الذي أسهم في تحسن علاقاتهما الثنائية، بشكل نسبي، قد تضيف التطورات المرتبطة بالمنافسة الأمريكية الصينية أبعادًا تقوض هذا التحسن.
جاذبية خطاب المنتصر: عمد كلا الجانبين الهندي والباكستاني خلال فترة التصعيد المتبادل إلى التأكيد على فاعلية ضرباته المُنفذة، بما مكّن الجانبان حين توصلا إلى اتفاق وقف إطلاق النار من إعلان النصر في مواجهة الآخر.
على سبيل المثال، يروج الجانب الهندي نجاحه في الإضرار بقواعد باكستانية وتدمير نظام رادار جوي في لاهور. وبحسب وزير الدفاع الهندي “راجناث سينغ”، فقد وصل “هدير القوات الهندية إلى روالبندي”؛ حيث مقر الجيش الباكستاني. في المقابل، يؤكد الجانب الباكستاني على نجاح قواته في ضرب أهداف عسكرية في عمق الهند، وإسقاطه خمس طائرات هندية مقاتلة.
يخدم خطاب المنتصر واقع القومية المتصاعد في كلا البلدين؛ الأمر الذي عزز من مكانة كلا القيادتين. فعلى الصعيد الهندي، أشادت القنوات الإخبارية الهندية برئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي”، باعتباره “بطلًا” لا يخشى مواجهة أي تحدٍ خارجي.
أما في باكستان، أسهم التصعيد وخطاب القادة السياسيين والعسكريين المصاحب له في توحيد الصف الداخلي الباكستاني، ومن التفاف المواطنين حول المؤسسة العسكرية. إذ شهدت الفترة السابقة لتطور التصعيد انفصال ما بين القيادة الباكستانية والمواطنين، ظهرت مؤشراته في تنامي الحراك الجماهيري المُطالب بتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية وحلحلة حالة الاستقطاب السياسي التي نشأت في أعقاب الإطاحة برئيس الوزراء السابق، وزعيم حزب حركة إنصاف “عمران خان”، الذي يعد هو صاحب النفوذ الشعبي الأقوى داخل الحياة السياسية الباكستانية، وتفاقمت من جرّاء اعتقاله وتوجيه القضاء الباكستاني لما يزيد على المائة اتهام إليه.
استمرار الضغط الدولي: برغم النفي الهندي، يشير الإعلان الأمريكي عن وساطتها الأخيرة بين الجانبين، وذلك بعد ما أبدته واشنطن في وقت سابق من عزوف عن التدخل، إلى إدراكها لأخطار استمرار التصعيد واحتمال التحول إلى حرب كبرى.
فمن ناحية، تعد الهند ضمن أهم المحاور في الاستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى محاوطة الصين. فخلال زيارته الأخيرة إلى الهند، أكد نائب الرئيس الأمريكي “جيه دي فانس” بأن “العلاقة بين الولايات المتحدة والهند ستُحدد معالم القرن الحادي والعشرين”. من ناحية أخرى، كشف التصعيد عن فاعلية السلاح الصيني بساحات القتال، وهو ما قد يسهم في ارتفاع مستوى الطلب الدولي عليه؛ الأمر الذي بدوره قد يؤثر بالسلب في مبيعات السلاح الأمريكي.
وعلى الرغم مما قد يبدو من مكاسب صينية ناتجة عن تطور التصعيد، يظل من مصلحة بكين عدم انخراط الجانبين في مواجهة أوسع، لما سيخلفه هذا الأمر من عدم استقرار في المنطقة يلحق الضرر بمشاريع ومصالح الصين، لا سيما في باكستان؛ حيث إن مشروع “الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني”، أحد المشاريع الأساسية في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وبالرغم مما شابه من بطء في عملية التنفيذ، فإنه من غير المتصور أن تعزف الصين عن مواصلة الاستثمار به.
مسارات محتملة
يصف الجانبان الهندي والباكستاني المحادثات اللاحقة لإعلان وقف إطلاق النار بأنها محدودة المستوى وفنية لضمان استمرار امتثال الجانبين بوقف إطلاق النار الذي، بحسب المدير العام للعمليات العسكرية في الجيش الهندي، الفريق الأول “راجيف غاي”، قد “تستغرق التفاهمات بخصوصه بعض الوقت حتى تؤتي بثمارها”.
فيما من غير المتوقع أن تتطرق المحادثات إلى بحث سبل تسوية النزاع حول كشمير. فعلى خلاف الآمال الباكستانية التي تصاعدت عقب إعلان الرئيس الأمريكي استعداده العمل مع الطرفين “لمعرفة ما إذا كان من الممكن التوصل إلى حل بشأن كشمير”، يرفض الجانب الهندي أي وساطة دولية بهذه القضية، مفضلًا إبقاءها قضية ثنائية مع باكستان وليست دولية. وقد تجلى هذا الرفض بشكل أكثر وضوحًا في التعليقات الهندية، سواءً الرسمية أو الشعبية، اللاحقة للإعلان الأمريكي، والرافضة لهذه الوساطة.
وفي هذا الإطار، يمكن تصور ثلاثة مسارات متوازية قد ينتهجها الجانبين الهندي والباكستاني خلال الفترة القادمة:
يرتبط المسار الأول باستمرار تبني القيادات الرسمية للجانبين خطاب الانتصار، الذي يؤكد قدرة الدولة على ردع وإلحاق الهزيمة بالخصم.
في خطابه يوم الثاني عشر من مايو الجاري، أكد رئيس الوزراء الهندي على أهمية القوة والردع، وما أظهرته المعركة الأخيرة مع باكستان من هيمنة الهند في حروب العصر الجديد، محذرًا إسلام أباد بضرورة تفكيك البنية التحتية للإرهاب إذا ما أرادت باكستان البقاء. في المقابل، أكد رئيس الوزراء الباكستاني في خطابه الذي ألقاه عقب إعلان وقف إطلاق النار على أن القوات الباكستانية الشجاعة والجريئة قد أظهرت احترافية، “وقدمت ردًا فعالًا للغاية سيُذكر دائمًا كفصل من فصول الحرب الحديثة”.
وفي هذا الإطار، من المتوقع أن يستمر الخطاب الهندي في التأكيد على عدم مضي نيودلهي في أي حوار مع إسلام أباد طالما استمر دعم الأخيرة للجماعات المسلحة المتمركزة على أراضيها. في المقابل، من المتوقع أن تستمر باكستان في خطابها المؤكد على أنه من غير المتصور فصل كشمير عن باكستان، داعيًا إلى ضرورة تدخل المجتمع الدولي لحلحلة هذه القضية وفقًا لقرارات مجلس الأمن وإرادة الشعب الكشميري.
يتصل المسار الثاني باحتمال انخراط البلدين في مفاوضات من شأنها ترتيب الوضع الأمني على الحدود، وسبل إعادة العلاقات الدبلوماسية والتجارية والشعبية، وربما قد تمتد إلى مناقشات موازية متعلقة بقضية تعليق الهند لمعاهدة مياه السند. فبرغم ما تؤكده العديد من الدراسات بشأن عدم التأثير الفوري لتعليق المعاهدة في مسار تدفق المياه نحو باكستان، إذ سيستغرق الأمر سنوات من مشاريع تطوير للبنية التحتية، واستثمارات تقدر بمليارات الدولارات لبناء سدود تتمكن الهند بمقتضاها من تعطيل حصة باكستان من المياه، تثار المخاوف حول مدى قدرة الهند على إجراء تغييرات طفيفة في توقيت وصول المياه، أو حجب تحذيرات الفيضانات؛ الأمر الذي في حال حدوثه سيتسبب في مشاكل حقيقية للزراعة والمزارعين الباكستانيين.
وينصرف المسار الثالث إلى الإجراءات المحتمل اتخاذها داخل الهند وباكستان. فمن جانب الهند، من المحتمل أن تمضي السلطات الهندية خلال الفترة القادمة نحو تعزيز سلطة الدولة داخل ولاية “جامو وكشمير” في مواجهة حركات التمرد الساعية إما للاستقلال أو الانضمام إلى باكستان. فيما قد تتجه باكستان إلى تكثيف حملات مكافحة الإرهاب ضد الانفصاليين البلوش، وتحديدًا جماعة “جيش تحرير بلوشستان”، التي زعم الجيش الباكستاني بأنها “وكيلة للهند”.
وختامًا، من المرجح أن يظل الخلاف الهندي الباكستاني حول إقليم “جامو وكشمير” خلافًا ممتدًا، بما يعنيه الأمر من احتمالات تجدد التصعيد بين الحين والآخر، والذي قد يتداخل في مسبباته عوامل أخرى كانعدام الثقة وسوء التقدير والقومية المتزايدة. وفي ظل ما أكده التصعيد الأخير من توسيع الجانبين لأهدافهم في عمق أراضي الخصم، ترتفع أخطار تحول أي تصعيد مستقبلي بينهما إلى مواجهة أوسع نطاقًا.