خبراء صحة النفسية والجريمة يكشفون لـ"نيوز رووم" دوافع تحرش كبار السن بالأطفال

في الآونة الأخيرة، تصاعدت وتيرة حوادث تحرش كبار السن بالأطفال، لتفتح بابا من التساؤلات حول دوافع غير مألوفة، تكشف عن أبعاد نفسية وصحية واجتماعية مسكوت عنها، الظاهرة التي بدأت تفرض نفسها على الواقع المجتمعي ليست مجرد انحرافات فردية، بل قد تكون نتيجة مباشرة لأمراض عضوية ونفسية يعاني منها بعض المسنين دون أن يلتفت إليها أحد.
وفى هذا السياق قال دكتور وليد هندى استشاري الصحة النفسية لـ "نيوز رووم" ، إن "البيدوفيليا" أو هوس الجنس بالأطفال، واحدا من أخطر أشكال الانحرافات الجنسية، وأكثرها خفاء وقدرة على التخفي وسط المجتمعات، ولا يقتصر خطر هذا الاضطراب النفسي العنيف على مجرد التعدي الجنسي، بل قد يتطور ليصل إلى جرائم القتل، في محاولة من الجاني لإخفاء آثار جريمته، وطمس صوت الضحية إلى الأبد.
اضطراب خطير يتجاوز حدود الانحراف
وأضاف هندى أن "البيدوفيليا" هى الميل الجنسي تجاه الأطفال ممن تقل أعمارهم بخمس سنوات أو أكثر عن الجاني، وغالباً ما يظهر هذا الميل المرضي في أشخاص راشدين أو مراهقين ينجذبون جنسياً نحو الأطفال دون سن البلوغ. وتُصنف البيدوفيليا ضمن اضطرابات السلوك الجنسي، وهي أكثر شيوعاً بين الذكور منها بين الإناث.
وأكد أن الجاني لا يكون غريباً في كثير من الحالات؛ فالمؤلم أن معظم هذه الجرائم تقع من داخل محيط الأسرة أو من أشخاص مقربين يمتلكون سلطة على الطفل، كالمدرس، أو المدرب، أو حتى أحد أفراد العائلة، هؤلاء يتقنون فن التودد، ويعرفون كيف يصطادون ضحاياهم في لحظات الضعف، أو كيف يهددونهم لاحقاً لمنعهم من الإفصاح عمّا تعرضوا له.
تطور سلوك المريض
وأضاف استشارى الصحة النفسية، أنه في بعض الأحيان، لا يكتفي الجاني بالفعل الجنسي المشين، بل يلجأ إلى ارتكاب جريمة قتل للتخلص من الطفل، خاصة إذا شعر بأنه قد يُكشف أمره، أو فقد السيطرة على الضحية، وتسجل العديد من جرائم القتل المرتبطة بالبيدوفيليا تحت مسمى "إخفاء الجريمة الأصلية"، ما يجعل من هذا الاضطراب تهديداً داهماً يتجاوز ما يظنه البعض أنه "تحرش جنسي" فحسب.
ما الذي يدور في عقل الجانى؟
وأكد "هندى" أن الدراسات النفسية تشير إلى أن من يعاني من البيدوفيليا غالباً ما يكون شخصاً مضطرباً نفسياً، يعاني من خلل بنيوي في شخصيته، وقد يتصف بالسيكوباتية، أي الانفصال التام عن القيم المجتمعية وعدم الإحساس بالذنب. كثير منهم يعاني من شعور دائم بالنقص، وغالباً ما يكون فاشلاً في حياته الاجتماعية أو المهنية، ويُظهر رغبة دفينة في الانتقام من محيطه.
وقال إنه من المثير للقلق، أن مريض البيدوفيليا قد يبدو شخصاً متزناً، مهذباً، وودوداً، ما يصعب كشفه بسهولة، لكنه في الحقيقة يخفي دوافع مريضة ورغبات غير سوية، وغالباً ما ينحدر من بيئة أسرية مضطربة، سواء كانت مفككة نتيجة طلاق أو وفاة أو غياب أحد الوالدين، أو تعاني من صراعات مزمنة تفقد الطفل الدعم النفسي اللازم.
وأضاف أنه في حالات كثيرة، يكون الجاني نفسه قد تعرض في طفولته لاعتداء جنسي، ويعيد دون وعي إنتاج هذا السلوك مع آخرين، في سلسلة متواصلة من الألم والاعتداء.
هل يمكن التعرف على المريض؟
قال دكتور هندى إنه في سن المراهقة أو بداية الشباب، قد تظهر على المصاب بالبيدوفيليا سلوكيات مثل الإدمان، وتعاطي المخدرات، والعزلة الاجتماعية، كما يعاني من اضطراب يعرف بمتلازمة "الانفصال الجزئي"، وهو خلل في مناطق متعددة من الدماغ المسؤولة عن التخيل، والإدراك، والربط بين الأحداث، كما يتسم بعدم الرضا عن العلاقة الجنسية مع البالغين، ويميل إلى الانسحاب من العلاقات الاجتماعية، مع خوف دائم من التعرض للعلاج النفسي، خشية "الوصمة الاجتماعية"، وكثير من هؤلاء يعيشون حالة اكتئاب دوري، ويصنفون كأشخاص متقلبين مزاجيا، قلقين بشكل مزمن.
نهاية مأساوية
وأضاف أن البيدوفيليا ليست مجرد انحراف جنسي، بل قنبلة نفسية واجتماعية قد تنفجر في أي وقت داخل الأسرة أو المدرسة أو النوادي. خطورتها لا تكمُن فقط في الفعل، بل في قدرة الجاني على التخفي، وفي هشاشة الضحية التي لا تملك أداة للدفاع عن نفسها.
يبقى الوعي المجتمعي، والكشف المبكر، والدعم النفسي للأسرة، من أهم أسلحة المواجهة، ومطلوب من الجهات الرسمية، التعليمية، والإعلامية، أن ترفع مستوى الحديث عن هذه الظاهرة بجرأة ووعي، بعيداً عن التستر والخوف من "الفضيحة"، لأن ضحايا اليوم.. قد يصبحون جناة.
ليست مرتبطة بعمر
قال دكتور فتحى قناوى، أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، جرائم الاغتصاب والتحرش لم تعد مرتبطة بسن الضحية أو الجاني، كما لم يعد بالإمكان اختزالها في فئة اجتماعية أو طبقة معينة، فنحن أمام سلوك منحرف لا يَظهر فجأة، بل ينمو ويتشكل منذ الصغر، مدفوعا بميول غير سوية تترسخ في غياب التوعية والردع الأخلاقي، وليس فقط القانوني، وأضاف أنه رغم ظهور حالات فردية بين الحين والآخر، فإن وصفها بـ"الظاهرة" يتطلب أن تطال ما لا يقل عن 10% من عدد السكان، وفق التعريف العلمي، لكن ما يظهر أمامنا من وقائع متكررة، حتى وإن لم تكن ظاهرة رقمية، إلا أنها تضع المجتمع كله أمام علامات استفهام حقيقية حول منظومة القيم التي يُفترض أن تحمي أفراده.
الأمان المفقود في الأماكن الآمنة
وأكد قناوى أن مشاهد الاعتداءات لم تعد محصورة في أماكن بعينها، بل امتدت إلى ما يفترض أنه أكثر المواقع أمانا، كالمنازل، والمدارس، والمؤسسات التعليمية، حادثة رجل واعتدائه على حفيده مثلًا، كشفت عن خلل صادم في فكرة "الأمان العائلي"، وأكدت أن الجريمة لا تحتاج إلى ظلام الشارع بقدر ما تستغل غياب القيم داخل الجدران المغلقة.
انهيار القيم وتفكك القدوة
وأضاف أستاذ كشف الجريمة، أن الأزمة لم تعد قانونية فقط، بل نفسية واجتماعية وثقافية، تتغذى على عوامل بيئية متشابكة، فالدراما والمحتوى الإلكتروني غير المنضبط، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعيد تشكيل وعي الأطفال والمراهقين دون رقابة، كل ذلك يفرز سلوكيات شاذة، ويخلق نماذج مشوهة تقتدي بها الأجيال الجديدة، وقال: " لقد غابت القدوة، وتحولت من معلم أو مرب أو رجل دين إلى ممثل، أو لاعب كرة، أو "بلوجر" يبحث عن الشهرة بأي ثمن، بينما فقدت المدرسة هيبتها، وبات الآباء يحذرون أبناءهم من "المدرس" نفسه بدل أن يكون مصدر أمان لهم".
الانهيار يبدأ من الأسرة
وأكد أن التحرش والاغتصاب ليسا حكرا على المرضى النفسيين، بل في أحيان كثيرة ينبعان من بيئة أخلاقية مضطربة، ومن تربية مفككة، تبدأ من الأسرة، فالأسرة، هذه اللبنة الأولى في بناء المجتمع، إذا غابت رقابتها وانهار تلاحمها، يصبح الطفل فريسة سهلة لأفكار مشوهة وسلوكيات خطيرة، خاصة حين يترك لساعات طويلة أمام هاتف محمول أو شاشة تلفاز تبث محتوى بلا ضابط.
المجتمع شريك في الحل
وأضاف أنه: "من هنا، تبدأ الحلول من الداخل، من "الإنسان" لا من "القانون" فقط، لأن الأحكام القضائية مهما بلغت من الصرامة، لا يمكنها وحدها أن تردع من نشأ في بيئة ترى في الجسد سلعة، وفي الضعف فرصة، وفي الفضيحة عارًا يُخفى لا جريمة تواجه.
بناء الإنسان من الداخل
وشدد قناوى على أنه لابد أن تعود الأخلاق منهجا في البيت قبل أن تدرس في المدارس، وأن يصبح الحديث عن حرمة الجسد جزءا من المنهج التعليمي، كما نص عليه الدستور الذي يحظر المساس بجسد الإنسان إلا في الحالات الطبية، وعلى المؤسسات الدينية من الأزهر والكنيسة، أن تؤدي دورها في ترسيخ منظومة القيم، جنبا إلى جنب مع الإعلام والفن والتعليم.
وقال: "نحن أمام مشكلة عميقة ومتراكمة، لا يمكن اختزالها في جريمة فردية ولا ردعها بحكم قضائي.. نحن في حاجة إلى مشروع مجتمعي لإعادة بناء الإنسان من الداخل".
تضخم البروستاتا محفز للرغبة الجنسية
قال دكتور جمال فرويز أستشاري الطب النفسي، لـ "نيوز رووم"، إن من أبرز الأسباب البيولوجية التي تدفع بعض كبار السن إلى هذا السلوك، ما يعرف بمرض تضخم البروستاتا، الذي يرافقه اضطراب هرموني قد يؤدي إلى زيادة مشاعر الإثارة والرغبة الجنسية بشكل غير متزن، ومع غياب الوعي الطبي، وتراجع المراقبة الأسرية، يصبح السلوك الجنسي الخارج عن السيطرة أمرا متوقعا من بعض الحالات.
الزهايمر
وأضاف أنه، في موازاة ذلك، يشير متخصصون إلى أن العديد من كبار السن قد يصابون بمرض الزهايمر في مراحله الأولى دون تشخيص واضح، إذ تؤكد الإحصاءات أن نحو 90% من حالات الزهايمر تمر دون علم ذويهم، ويعامل المريض وكأنه طبيعي تمامًا، ومع تقدم المرض، تبدأ بعض السلوكيات الشاذة في الظهور، من بينها الانفلات الجنسي، وهو فقدان السيطرة على التصرفات والغرائز، وقد يصل الأمر إلى البحث عن إشباع جنسي من مصادر غير منطقية كالاعتداء على الأطفال.
البيدوفيليا
وأكد فرويز، أن الدراسات تشير إلى أن اضطراب "البيدوفيليا"، أو الميل الجنسي للأطفال، قد يتشكل مبكرا في حياة الإنسان، إذ تبدأ 18% من الحالات قبل سن 14 عاما، وتستمر لدى أكثر من 20% لما بعد هذا العمر وحتى الشيخوخة، وفي بعض الحالات، تظل هذه الرغبة خامدة، حتى تنفجر مع تقدم السن وضعف الضوابط النفسية أو العقلية، مع في غياب التشخيص أو الاحتواء، قد يسعى صاحب هذا الاضطراب لإشباع رغباته مع أطفال أبرياء، خاصة إن وجد فرصة أو غيابا رقابيا من الأسرة.
السوشيال ميديا خطر آخر
وقال استشارى الطب النفسي إنه لا يمكن تجاهل الدور السلبي لمنصات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت متنفسا يوميا لكبار السن، بعد أن اجتذبتهم تطبيقات مثل "تيك توك" و"يوتيوب"، وما تحويه من مشاهد مثيرة ومحتوى غير منضبط، في ظل غياب الرقابة والفراغ العاطفي، قد تتحول هذه المنصات إلى مصدر إثارة مستمر يوقظ رغبات مكبوتة، ويضعف السيطرة لدى من يعانون أساسًا من اختلالات عقلية أو جنسية.
تراجع دور الأسرة
وأضاف أن الواقع الاجتماعي اليوم يظهر بوضوح اتساع الفجوة بين الأبناء وكبار السن في الأسرة الواحدة، فالاهتمام انصرف إلى متابعة حياة الفنانين والمشاهير ولاعبي الكرة، بينما ترك الآباء والأجداد لمصيرهم مع الوحدة والفراغ، دون احتواء نفسي أو متابعة طبية.
حماية الأطفال تبدأ من فهم الكبار
وشدد على أن المشكلة أكبر من أن تختزل في جريمة، نحن بحاجة إلى وعي حقيقي بطبيعة أمراض الشيخوخة، وإلى برامج صحية ونفسية للكشف المبكر عن حالات الزهايمر واضطرابات السلوك الجنسي، كما يتعين على الأسر أن تدرك أن كبار السن ليسوا فقط مسئولية رعاية مادية، بل أيضا مسؤولية عاطفية ونفسية وسلوكية، فمعرفة ما يدور في دواخلهم من تغيرات، ومتابعة محتوى ما يشاهدونه أو يتأثرون به، قد تمنع جريمة قبل وقوعها.
الوقاية تبدأ من الأسرة
وأكد فرويز أن الخطوة الأولى هي إعادة الاعتبار لدور الأسرة في الاحتواء، وتوسيع دائرة الفحص النفسي والطبي لكبار السن، وفتح النقاش المجتمعي حول "السلوك الجنسي غير السوي لدى الشيخوخة" دون وصم أو إخفاء، ومع التعاون بين الطب والأسرة، والدين والإعلام.