عاجل

فتحى قناوى: التحرش جريمة لا تعترف بالعمر ولا تردعها القوانين وحدها

د. فتحي قناوى
د. فتحي قناوى

في وقت تتسارع فيه وتيرة الحياة وتزدحم المشاهد اليومية بالأحداث، تظل جرائم التحرش والاغتصاب شروخا صادمة في جدار الإنسانية، لا تعترف بعمر ولا تفرق بين ضحية وأخرى، هي جرائم تنفجر في أكثر الأماكن أمنا، وتحمل في طياتها مآسي نفسية واجتماعية تفوق أثر الجريمة نفسها، تكرارها وانتشارها في البيئات المختلفة يدفعنا لإعادة النظر في منظومة القيم التي تحكم سلوك المجتمع، إنها أزمة تتجاوز حدود القوانين والعقوبات، لتصل إلى عمق الأسرة، والمدرسة، والدراما، والسوشيال ميديا، حيث تغيب القدوة، وتنهار الحواجز الأخلاقية، ويترك الطفل فريسة لسلوكيات منحرفة تنمو في ظل صمت تربوي.
وفى هذا السياق قال دكتور فتحى قناوى، أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، جرائم الاغتصاب والتحرش لم تعد مرتبطة بسن الضحية أو الجاني، كما لم يعد بالإمكان اختزالها في فئة اجتماعية أو طبقة معينةـ فنحن أمام سلوك منحرف لا يَظهر فجأة، بل ينمو ويتشكل منذ الصغر، مدفوعا بميول غير سوية تترسخ في غياب التوعية والردع الأخلاقي، وليس فقط القانوني، وأضاف أنه رغم ظهور حالات فردية بين الحين والآخر، فإن وصفها بـ"الظاهرة" يتطلب أن تطال ما لا يقل عن 10% من عدد السكان، وفق التعريف العلمي، لكن ما يظهر أمامنا من وقائع متكررة، حتى وإن لم تكن ظاهرة رقمية، إلا أنها تضع المجتمع كله أمام علامات استفهام حقيقية حول منظومة القيم التي يُفترض أن تحمي أفراده.
الأمان المفقود في الأماكن الآمنة
وأكد قناوى أن مشاهد الاعتداءات لم تعد محصورة في أماكن بعينها، بل امتدت إلى ما يفترض أنه أكثر المواقع أمانا، كالمنازل، والمدارس، والمؤسسات التعليمية، حادثة رجل واعتدائه على حفيده مثلًا، كشفت عن خلل صادم في فكرة "الأمان العائلي"، وأكدت أن الجريمة لا تحتاج إلى ظلام الشارع بقدر ما تستغل غياب القيم داخل الجدران المغلقة.
انهيار القيم وتفكك القدوة
وأضاف أستاذ كشف الجريمة، أن الأزمة لم تعد قانونية فقط، بل نفسية واجتماعية وثقافية، تتغذى على عوامل بيئية متشابكة، فالدراما والمحتوى الإلكتروني غير المنضبط، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعيد تشكيل وعي الأطفال والمراهقين دون رقابة، كل ذلك يفرز سلوكيات شاذة، ويخلق نماذج مشوهة تقتدي بها الأجيال الجديدة، وقال: " لقد غابت القدوة، وتحولت من معلم أو مرب أو رجل دين إلى ممثل، أو لاعب كرة، أو "بلوجر" يبحث عن الشهرة بأي ثمن، بينما فقدت المدرسة هيبتها، وبات الآباء يحذرون أبناءهم من "المدرس" نفسه بدل أن يكون مصدر أمان لهم".
الانهيار يبدأ من الأسرة
وأكد أن التحرش والاغتصاب ليسا حكرا على المرضى النفسيين، بل في أحيان كثيرة ينبعان من بيئة أخلاقية مضطربة، ومن تربية مفككة، تبدأ من الأسرة، فالأسرة، هذه اللبنة الأولى في بناء المجتمع، إذا غابت رقابتها وانهار تلاحمها، يصبح الطفل فريسة سهلة لأفكار مشوهة وسلوكيات خطيرة، خاصة حين يترك لساعات طويلة أمام هاتف محمول أو شاشة تلفاز تبث محتوى بلا ضابط.
المجتمع شريك في الحل
وأضاف أنه: "من هنا، تبدأ الحلول من الداخل، من "الإنسان" لا من "القانون" فقط، لأن الأحكام القضائية مهما بلغت من الصرامة، لا يمكنها وحدها أن تردع من نشأ في بيئة ترى في الجسد سلعة، وفي الضعف فرصة، وفي الفضيحة عارًا يُخفى لا جريمة تُواجه.
بناء الإنسان من الداخل
وشدد قناوى على أنه لابد أن تعود الأخلاق منهجا في البيت قبل أن تدرس في المدارس، وأن يصبح الحديث عن حرمة الجسد جزءا من المنهج التعليمي، كما نص عليه الدستور الذي يحظر المساس بجسد الإنسان إلا في الحالات الطبية، وعلى المؤسسات الدينية من الأزهر والكنيسة، أن تؤدي دورها في ترسيخ منظومة القيم، جنبا إلى جنب مع الإعلام والفن والتعليم.
وقال: "نحن أمام مشكلة عميقة ومتراكمة، لا يمكن اختزالها في جريمة فردية ولا ردعها بحكم قضائي.. نحن في حاجة إلى مشروع مجتمعي لإعادة بناء الإنسان من الداخل".

تم نسخ الرابط