عاجل

عندما كنا صغارًا طالما حلمنا، بأضواء المدينة الصاخبة، طالما أغمضنا أعيننا أمام السواقي الدائرة وحلمنا بغدٍ يملؤه الصخب، تدور فيه الدنيا بسرعة، تبدو الحياة جميلة لمن يغمض عينيه عنها، كالأبقار الدائرة في السواقي، مستسلمة، لا حول لها ولا قوة.

جرت الحياة وأوهمتنا المدنية المزدحمة بالناس والأضواء والضجيج، سرنا وأعيننا مفتوحة على وسع الدنيا. الشوارع التي أرهقتنا سيرًا لم تنحنِ أمام عجزنا عن الاستمرار. لم تنطفئ أضواء المدينة عندما انطفأ الشغف في الصدور. كالأبقار معصوبة العينين، أخذنا الشغف إلى حيث لا نشبع ولا نقنع. أسوأ ما يمكن أن يحدث للإنسان هو أن يشعر أنه قد بلغ مراده، لا لأن بلوغ الغايات مذموم، بل لأن الرغبة في الحياة تموت لحظة التصديق بأن لا شيء بعدها يستحق.

في خضم هذه العجلة المسعورة التي نسميها "الحياة الحديثة"، يضيع الإنسان من نفسه قبل أن يضيع من الآخرين. اللهث المستمر خلف المكاسب، والسعي المحموم إلى ما هو "أكثر" و"أسرع" و"أكبر"، يسلب من المرء أجمل ما فيه: رقّته، دهشته، قدرته على التوقّف والتأمل. 

يصبح كل شيء وسيلة لغاية، وتفقد التفاصيل معناها، والعلاقات دفئها، والوقت قيمته. يمضي الناس كأنهم في سباق لا يعرفون نهايته، يكدّسون الإنجازات، لكنهم يخسرون أشياء لا تُقاس: ضحكة صادقة، نظرة امتنان، لحظة سكون. وما أقسى أن يصبح الإنسان آلة تُنتج وتستهلك، لكنها لم تعد تعرف كيف تُحب أو تُحسّ. 

زرعت الرأسمالية فينا وهمًا متقنًا، أوهمتنا أن القيمة تُقاس بما نملك، لا بما نحن عليه. روّجت لفكرة أن السعادة سلعة تُشترى، وأن النجاح هو صعود لا يتوقّف، حتى لو فقدنا المعنى في منتصف الطريق. 

جعلتنا نُطارد مقاعد العمل كما لو أنها عروش، ونكدّس الأشياء كما لو كانت تملأ الفجوات التي نعرف أنها لا تُملأ. لم تقل لنا إننا سنفقد طمأنينتنا في الزحام، وإننا سنقايض الوقت بأرقام في حسابات لا تمنحنا الدفء. 

كانت بارعة في التسويق لفكرة الحياة الأفضل، لكنها كانت صامتة تمامًا أمام الأسئلة الكبرى: من نكون؟ لماذا نهرول؟ وماذا نفعل حين نصل؟ في ظل هذا النظام، تحوّل الإنسان إلى مُستهلك دائم، حتى صار يستهلك نفسه في اللهاث، ويقيس قيمته بمدى إنتاجه لا بمدى اتزانه. وما أخطر أن يفقد الإنسان روحه باسم التقدّم، ثم لا يجد من يخبره أن ما ضاع كان هو الأهم.

لكن شيئًا في الداخل يبقى يقظًا، حتى لو ظننا أنه قد انطفيء، بعد أن نتعب من الركض، بعد أن نكتشف أن الضجيج لا يملأ الفراغ، ولا يعوّض عن الدفء، تبدأ النفس، دون استئذان، في التراجع خطوة إلى الوراء. 

تهمس، لا تصرخ، تبحث عن شيء مألوف، عن ملمس قديم، عن رائحة خبز في الصباح، أو عن ضوء شمس ينسلّ من نافذة صغيرة في بيت ريفي. كأنها تقول: "لقد جرّبنا كل ما لم نكن نحن، فلنعد إلى ما كنا عليه."

تبدأ العودة بصمت، لا تتطلب انقلابًا دراميًا، بل إدراكًا هادئًا بأن السعادة لم تكن في الأبراج المرتفعة، ولا في المقاهي المزدحمة، بل في الأماكن التي لا تُكلّف روحنا عناء التمثيل، تفرّ النفس من التكلّف وتعود إلى حيث لا تحتاج إلى شرح نفسها، حيث يُسمع الصوت الداخلي بوضوح، دون صدى اصطناعي.

الهدوء لا يعني الفراغ. إنه امتلاء من نوع خاص، امتلاء بالتفاصيل الصغيرة: فنجان شاي في المساء، كتاب نُعيد قراءته دون هدف، لقاء صادق لا يحتاج إلى صور، ضحكات مع الأحبة، وحديث دون تكلف، كلما عاد الإنسان إلى هذه اللحظات، تذكّر أنه لا يحتاج إلى كثير ليشعر بالكثير. الشغف الحقيقي لا يصرخ، لا يلهث، إنه يمشي على مهل، كخطوات طفل على تراب رطب.

المدينة تعلّمنا أن نحلم أكثر مما نعيش، أن نطارد الصورة بدل الجوهر. لكنها أيضًا تهدينا، دون قصد، إلى الفكرة النقيضة: أن البحث المستمر عن شيء لا نعرفه قد يقودنا في النهاية إلى أنفسنا. وما الشغف إلا هذه العودة المتجددة، إلى شيء نعرفه منذ البداية، لكننا فقدنا لغته في الزحام.

في لحظة صدق مع الذات، قد يجلس الإنسان على مقعد خشبي قديم، ويشعر أنه بخير. لا لأنه أنجز الكثير، بل لأنه نجا من السقوط في لا شيء. هناك، في هذه اللحظة العابرة، ينهض الشغف من سباته. ليس الشغف الذي يُبهر الآخرين، بل الذي يُبقي الروح دافئة. شغف بالبقاء حيًا رغم كل الإحباطات، بالإيمان أن الخير ممكن، وأن السكينة ليست هروبًا بل شجاعة.

المدن، بأضوائها وادعاءاتها، لا تلغي فطرتنا، لكنها تختبرها. ومن ينجح في هذا الامتحان، هو من يعرف أن يزرع وردة في شرفة مطلة على الإسفلت، أن يُربّي قلبه كما تُربى زهرة في بيت لا يدخله النور إلا قليلًا. وحدهم من عرفوا طريق العودة، يستطيعون أن يعيشوا داخل المدن دون أن تنبت في صدورهم الخرسانة.

وهكذا، بعد أن تخبو الأضواء وتخفت الضجة، بعد أن يهدأ الركض وتبرد الرغبات، لا يبقى للمرء إلا نفسه. لا المدن تمنحه السلام، ولا الإنجازات تمنحه المعنى إن فقد صلته ببدايته. وحدها العودة إلى البسيط، إلى ما لا يحتاج إلى زينة ولا تصفيق، تعيد ترتيب الأشياء في القلب.

في آخر الأمر، لا نبحث عن ضوء أقوى، بل عن ضوء أصدق. عن تلك اللحظات التي نشعر فيها أننا نحن، دون أقنعة، دون قلق المقارنة، دون لهاث المجاراة. في تلك اللحظات، يولد الشغف من جديد، لا بوصفه شرارة طارئة، بل جذوة مستقرّة، تغذّيها السكينة ويصونها الهدوء.

إن الإنسان لا يُهزم حين يُخفق، بل حين ينسى فطرته. وحين يتذكّرها، وسط هذا العالم الصاخب، يكون قد فاز بما هو أثمن من كل ما وعدت به المدينة: أن يحيا ببساطة، ويحب بعمق، ويظل قلبه حيًا، مهما تغيرت الحياة من حوله.

تم نسخ الرابط