في كل صباح، نستيقظ على سيل لا يتوقف من المعلومات: أخبار متدفقة من كل حدب، منشورات، تغريدات، مقاطع، تحليلات، وآراء متضاربة. يشعر المرء أحيانًا بأنه محاصر، لا من قِلّة المعرفة، بل من فيضانها. ومع ذلك، يظل هناك فراغٌ ما، فراغٌ في الفهم، في الرؤية، في ترتيب الأشياء على خارطة الوعي. فهل نحن نعرف حقًا، أم أننا فقط نسمع الضجيج؟!
لقد انتقل الإنسان خلال السنوات القليلة الماضية من ندرة المعرفة إلى تخمتها، لكنه لم ينتقل بنفس الوتيرة من الجهل إلى الوعي. بل إن هذه الوفرة المربكة جعلت من المعرفة سلعة عابرة، تُستهلك كما يُستهلك فنجان قهوة: سريعًا وسطحيًا ومؤقتًا. فكل ما كان يومًا يحتاج إلى وقت وتدرّج وتأمل، صار يُختصر في عنوان جذّاب أو فيديو مدته ثلاثون ثانية. وهكذا، صار الغارق في هذا التيه يظن نفسه عالمًا، بينما هو يفتقر لأبسط أدوات التفكير النقدي.
وقد كشفت دراسة صادرة عن "جامعة كولومبيا" والمعهد الوطني الفرنسي بالتعاون مع "مايكروسوفت" أن 59% من مستخدمي الإنترنت يشاركون روابط لمقالات دون أن يقرؤوها، بل يعتمدون على العنوان الجذاب فقط، وأن أكثر من نصف الروابط التي يتم مشاركتها في منصة "X" لم يتم فتحها أو النقر عليها أبدًا، ولا حتى من قبل الذين قاموا بمشاركتها. وهذا يعني أن فعل المشاركة أصبح بديلًا عن فعل الفهم، وأن الإشباع المعرفي بات سطحيًا، لا ينبع من عمق التأمل بل من تكرار التعرّض السريع للمحتوى.
ولأننا فقدنا البوصلة، لم نعد نفرّق بين معلومة صحيحة وأخرى مفبركة، أو بين رأي علمي وتأويل شعبوي، أو بين تحليل عقلاني وانطباع عابر. فلم تعد المسألة مسألة وصول إلى المعرفة، بل صارت أزمة اختيار وانتقاء، وأزمة منهج قبل أن تكون أزمة مضمون. ومن هنا، بات الكثيرون يرددون ما يجهلون، ويجادلون فيما لا يفقهون، ويقعون فريسة لمن يتقن فنون التأثير والإثارة أكثر مما يمتلك أدوات الفكر والإقناع.
ويؤدي في ذلك دورًا خطيرًا ما تقوم به منصات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تضبط إيقاع وعي الناس، وتحدد ما يجب أن يُقال وما يجب أن يُنسى. ففي هذه المنصات، تتكثف السرعة على حساب العمق، ويُكافأ من يختصر لا من يُفكّر، ويُحتفى بمن يُثير لا بمن يُنير. وقد زاد الأمر سوءًا انسحاب بعض المؤسسات العلمية والثقافية من المشهد العام، كضعف بعض مراكز البحوث النوعية التي كانت تنتج دراسات معمقة وتحليلات راقية، أو عجزها عن التواصل بلغة الناس، فتركت فراغًا ملأته الأصوات المرتفعة والآراء المعلّبة.
لقد أصبحت الثقافة السائدة، في كثير من الأحيان، ثقافة انطباع لا ثقافة معرفة. بل إن بعض من يُفترض أنهم نخبة فكرية باتوا ينجرفون إلى خطاب شعبوي استهلاكي، يلاحق الرائج ويتجنب المعقد، طلبًا للقبول الجماهيري أو النجومية اللحظية. في هذا المناخ، تراجعت قيمة التخصص، وانحدرت مكانة البحث، وصار الجدل المجتمعي غالبًا ما يقوم على مغالطات وليس على حقائق.
ولأن كل تيه لا بد له من مخرج، فإن أولى خطوات الخلاص هي الاعتراف بوجود المشكلة. نحن بحاجة إلى مراجعة عميقة لطريقتنا في التفكير، لأساليبنا في القراءة، لاختياراتنا لما نتابعه ونتبنّاه. ولا بد من إعادة الاعتبار للقراءة المتأنية، للكتب والمصادر التي تصنع وعيًا لا تلك التي تبني انطباعًا عابرًا. كما نحتاج أيضًا إلى تعليم الأجيال الجديدة مهارات التفكير النقدي: كيف تسأل قبل أن تجيب، كيف تتحقق قبل أن تُشارك، كيف تفرّق بين المتاح والمفيد، بين المعلومة والمعنى.
ويُعد "التعلّم القائم على التساؤل" (Inquiry-Based Learning) من النماذج التعليمية التي يمكن أن تُحدث أثرًا حقيقيًا، حيث تعزز مهارات التحليل والفهم، وتفتح الباب أمام الطلاب لاكتشاف المعرفة لا حفظها.
كما أن مؤسسات التنشئة الاجتماعية -من الأسرة إلى المدرسة إلى المسجد والكنيسة- مدعوة اليوم لتجديد أدواتها وأساليبها، والانخراط الفعلي في توجيه الوعي العام بلغة عصرية لا تتخلى عن العمق، ولا تغفل عن متغيرات اللحظة. كذلك تُلقى على عاتق الإعلام مسؤولية أخلاقية كبرى، تتمثل في الانتصار للمعرفة لا للفوضى، وللبيان لا للبلبلة، وللوعي لا للضجيج.
وقد أشار إلى هذا المعنى الفيلسوف نعوم تشومسكي في كتابه:Media Control: The Spectacular Achievements of Propaganda حيث أوضح أن: "السيطرة على الإدراك أهم من السيطرة على السلوك، لأنها تحدد كيف يفكر الناس، وماذا يظنون أنهم يعرفون." وهذه السيطرة الناعمة على الإدراك هي ما يجب أن ننتبه له ونحن نتعامل مع كمٍّ هائل من المحتوى كل يوم.
فالمعرفة ليست كثرة محتوى، بل هي القدرة على رؤية الصورة الكلية. وليست في سرعة الاطلاع، بل في صدق الفهم، وسلامة التلقي، ومنهجية الاستيعاب. فحين نفقد البوصلة، نصبح عرضة لكل ريح. أما حين نستعيدها، نبدأ رحلة الخروج من التيه نحو وضوح المعنى، وثبات الاتجاه، وطمأنينة الإدراك.
في زمن الضجيج المعرفي، بناء الوعي مقاومة.
وفي زحمة العناوين المثيرة، لا بد من بوصلة تُعيد للمعنى قيمته، وللعقل حضوره.