عاجل

كان للحضارة المصرية القديمة وقع خاص فى نفوس الرحالة العرب الذين زاروا مصر فى عصورهم المختلفة ، فكتبوا عنها لا بوصفهم زائرين بل كشهود على مجد سابق تجاوز حدود الفهم فى زمنهم ، ولم تكن كتاباتهم عن مصر القديمة مجرد وصف سطحي لما شاهدوه ، بل عكست محاولات لفهم إرث حضاري غامض ، وسط شعور بالانبهار والرهبة ، وفى أحيان كثيرة التساؤل الفلسفي والديني عن مصير الأمم وزوالها.

زار "ابن بطوطة" (القرن الرابع عشر) صعيد مصر فرأى الآثار المصرية فى الأقصر وما حولها وكتب "رأيت بصعيد مصر صورًا وتماثيل من الحجارة الكبار ، لا يُعرف لها مثل ، ولا يُفهم لها صنع ، كأنها من عجائب الدنيا." فقد رأى فى تلك المعابد والتماثيل بقايا "أمة عظيمة سبقت الزمان" ، وتوقف طويلًا عند ضخامتها ودقة نحتها دون أن يتمكن من تفسير كيفية بنائها أو الغرض من ورائها ، مما يعكس حالة الانبهار الممزوج بالغموض.

أما "عبد اللطيف البغدادي" (القرن الثاني عشر) فقد اقترب من آثار مصر القديمة بعين الباحث المتأمل ، فيصف فى كتابه الشهير "الإفادة والاعتبار" الأهرام وأبو الهول بدقة ، ويُعبر عن احترامه للمستوى العلمي والتقني الذي وصلت إليه الحضارة المصرية القديمة بعيدًا عن الخرافات التي كانت سائدة فى عصره ، فيقول مقولته الخالدة "لو لم يكن بمصر من الآثار إلا الأهرام ، لكانت كافية فى الدلالة على عِظم شأن من بناها .. فما ظنك بما لم يصل إلينا؟" ، فالرحالة والطبيب والفقيه الكبير لم ينظر إلى المصريين القدماء كطغاة بل رأى فيهم علماء وفلاسفة كانت لهم نظرتهم إلى الكون ، وتركوا وراءهم معرفة تجلت فى عمارتهم.

فى القرن العاشر الميلادي زار "المقدسي" مصر وسجل مشاهداته فى كتابه "أحسن التقاسيم" ووقف مذهولًا أمام أهرامات الجيزة فكتب" هى أهرام ثلاثة مبنية بناءً محكمًا، قد خالف أهل هذا الزمان فى طُرق البناء، لا يُعرف كيف رُفعت أحجارها، ولا كيف صعدوا بها إلى هذا العلو." فكان تعجبه أكبر من أن يُفسر ، وربط بناء الأهرامات بالعلوم القديمة ، لكنه امتنع عن تبني الروايات الشعبية ، وركز على أن ما تركه المصريين القدماء هو عمل خارق من الناحية الهندسية والمعمارية.

لم يزر "ياقوت الحموي" مصر بنفسه لكنه فى "معجم البلدان" اعتمد على روايات موثوقة لمشاهدين عيان فوصف الأهرام بأنها" جبال من صنع البشر، شاهدة على ملوك خلت، لا يُدرى من هم، ولا كيف بُنيت .. فيها سر لا يعلمه إلا الله." فقد رأى فى الأهرامات رمزًا للخلود ، وكتب بأسلوب يتسم بالخشوع أمام عظمة هذه الآثار ، معتبرًا أن ما تركه المصريين القدماء لا يزال يعلو على ما أنجزته أمم لاحقة.

ولم يقتصر تأمل الرحالة على الجانب المادي من الحضارة المصرية القديمة ، بل تساءلوا عن معناها وعن مصير أمة بهذه العظمة ، وكثير منهم أشار إلى أن هذه الحضارة كانت مُتقدمة فى العلم والفلسفة والرياضيات ، وشهاداتهم تؤكد على أن الحضارة المصرية القديمة كانت فوق مستوى إدراكهم فى زمانهم ، ومع ذلك حاولوا استيعابها فكتبوا بانبهار واحترام وأحيانًا بخشوع عن قوم سبقوا عصرهم وتركوا خلفهم إرثًا حيًا. لقد أدرك هؤلاء أن مصر ليست مجرد أرض ، بل سجل مفتوح لتاريخ الإنسان ، حيث يقف الماضي شامخًا متحديًا النسيان.

تم نسخ الرابط