استبدال الرسوم الحكومية بضريبة موحدة وجذب مزيد من الاستثمارات

تعد الأعباء المالية والإدارية من أبرز العوامل المؤثرة في قرارات الاستثمارات داخل أي دولة، فقد تدفع نحو مزيد من الاستثمار أو تؤدي إلى إحجام المستثمرين عن توجيه رءوس أموالهم للأنشطة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، فتحرم الدولة من عوائده الاقتصادية.
وفي ضوء التوجه الاستراتيجي للحكومة المصرية نحو تمكين القطاع الخاص، وجذب مزيد من الاستثمارات وتوطين الصناعة المحلية، اتخذت الدولة عددًا من الإجراءات الإصلاحية شملت إصدار وثيقة ملكية الدولة، واستئناف برنامج الطروحات الحكومية، واستحداث الرخصة الذهبية، وإطلاق مبادرة ابدأ لدعم وتوطين الصناعة المحلية، فماذا عن الأعباء المالية والإدارية التي يتكبدها المستثمر، وما مدى فاعليتها في تحسين مناخ الأعمال؟
أنظمة الاستثمارات المختلفة
تختلف الأعباء المالية والإدارية التي يتحملها المستثمر وفقًا لنظام الاستثمار المتبع، وتتعدد أنظمة الاستثمار في مصر، إذ تشمل الاستثمار الداخلي والمناطق المؤهلة لاستقبال المشروعات، والتي تتضمن المناطق الحرة والمناطق الاستثمارية والمناطق التكنولوجيا والمناطق الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة. وتختلف المشروعات المقامة بالمناطق المؤهلة لاستقبال المشروعات عن مشروعات الاستثمار الداخلي في أن المناطق المؤهلة لاستقبال المشروعات لها مجلس إدارة يتولى -ضمن مسئولياته- ترخيص المشروعات داخل حدود المنطقة؛ مما ييسر على المستثمرين التعامل مع أجهزة الدولة المختلفة واستصدار التراخيص والموافقات.
ويضم الاستثمار الداخلي كافة المشروعات التي تقام في غير المناطق المؤهلة لاستقبال المشروعات، ويسمح للمستثمرين الأجانب امتلاك المشروعات الاستثمارية التي يقيمونها على الأراضي المصرية بالكامل (باستثناء المشروعات المقامة بشبة جزيرة سيناء والتي يحكمها لوائح خاصة)، وتتولى مراكز خدمات المستثمرين تقديم خدمات تأسيس الشركات وإنشاء فروعها، وتغيير النشاط وأعمال التصفية وغيرها من المسائل المتصلة بالشركات، وتتمتع مشروعات الاستثمار الداخلي بالحوافز العامة والخاصة والإضافية المنصوص عليها في قانون الاستثمار. ويصل عدد مراكز خدمات المستثمرين إلى 15 مركزًا في القاهرة (المركز الرئيسي)، والعاشر من رمضان، والسادس من أكتوبر، والإسكندرية، وجمصة، وبورسعيد، وجنوب سيناء، وقنا، وسوهاج، وأسيوط، والمنيا، والإسماعيلية، والفيوم، والوادي الجديد، والسويس، وقد اشتملت إجراءات تحسين مناخ الاستثمار تطوير العمل بمراكز خدمات المستثمرين وميكنة خدماتها.
أما بالنسبة للمناطق الحرة فهي مناطق محددة جغرافيا داخل حدود الدولة، يتم إنشاء المشروعات بها بهدف التصدير ولا تخضع للنواحي الجمركية والاستيرادية والضريبية المعمول بها داخل البلاد، وغالبًا ما يتم إقامتها بالقرب من الموانئ البحرية والجوية للاستفادة من موقع مصر الجغرافي. وتعد المناطق الحرة أحد مصادر النقد الأجنبي وتتمتع المشروعات بها بعدد من المزايا التنافسية تتمثل أهمها في حرية تحويل رأس المال المستثمر وأرباح المشروع للخارج، وحرية اختيار مجال الاستثمار والشكل القانوني للمشروعات، مع عدم وجود حدود على جنسية رأس المال (بخلاف منطقة شبة جزيرة سيناء)، ومنح المستثمرين الأجانب تسهيلات في الإقامة ومنح العاملين الأجانب تصاريح إقامة بناء على طلب المشروع، وإعفاء كامل المعدات والآلات المستوردة من الرسوم الجمركية، واكتفاء المشروع بالترخيص الصادر له عند التعامل مع أجهز الدولة المختلفة، وإعفاء صادرات وواردات المشروع من وإلى خارج البلاد من أي ضرائب أو رسوم جمركية، وكذلك عدم الخضوع لأي إجراءات جمركية أو قواعد استيرادية عادية معمول بها داخل البلاد، وإعفاء واردات المشروع من السوق المحلي من ضريبية القيمة المضافة، وإعفاء كامل المكونات المحلية للسلع المنتجة من الرسوم الجمركية في حالة البيع للسوق المحلي. ووفقًا لإحصائيات الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة المحدثة في أبريل 2024، فإن عدد المشروعات العاملة بنظام المناطق الحرة يصل إلى 1169 مشروعًا بإجمالي رءوس أموال 13.8 مليار دولار وتكاليف استثمارية تقدر بنحو 33 مليار دولار، وفرت ما يتجاوز 201 ألف فرصة عمل في 9 مناطق حرة.
أما بالنسبة للمناطق الاستثمارية فهي تتمثل في منطقة جغرافية محُددة المساحة والحدود تخُصص لإقامة نشاط معين أو أكثر من الأنشطة الاستثمارية المتخصصة وغيرها من الأنشطة المكُملة لها، ويتم إنشاء هذه المناطق بقرار من رئيس مجلس الوزراء. يكون لكل منطقة استثمارية مطور يرخص له بإنشاء المنطقة أو إدارتها أو تطويرها أو تنميتها والترويج لها وفق البرنامج الزمني المحُدد بقرار الإنشاء. وهناك أيضًا المناطق التكنولوجية والتي تعد إحدى صور المناطق الاستثمارية ولكنها تتخصص في مجال صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وتقوم المناطق الاستثمارية على نظام التنمية المتكاملة في مختلف المجالات والأنشطة الصناعية والزراعية والتجارية والخدمية واللوجستية، وتوفر للمستثمر أراضي ووحدات صناعية كاملة المرافق، ويتم إصدار كافة الموافقات والتراخيص اللازمة لها بإجراءات ميسرة، ويكتفي في التعامل مع أجهزة الدولة المختلفة بقرار الترخيص بمزاولة النشاط الصادر من الهيئة العامة للاستثمار، ويتولى مجلس إدارة المنطقة الاستثمارية إدارة شئونها وتذليل كافة العقبات التي تواجه مشروعاتها، ويتولى مكتب تنفيذي تابع لهيئة الاستثمار النيابة عن المشروعات في التعامل مع كافة الجهات المعنية، وتتمتع المناطق الاستثمارية بالحوافز العامة والخاصة والاضافية المنصوص عليها في قانون الاستثمار وتسري على مشروعات تلك المناطق القواعد الخاصة بالسماح الجمركي المؤقت والدروباك. وتقدر عدد المشروعات المقامة بالمناطق الاستثمارية نحو 1271 مشروعًا بحجم استثمار يتجاوز 34 مليار جنيه بما يوفر نحو 90 ألف فرصة عمل في عدد 11 مناطق استثمارية في مواقع جغرافية مختلفة.
وبالنسبة للمناطق الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة فهي مساحة من الأرض لها قانون خاص وهيئة مشرفة على تنفيذه، لها موازنة مستقلة ولا تخضع لقوانين الهيئات العامة بالدولة، وتتميز بتوحيد سلطات اتخاذ القرار في جميع الأمور المرتبطة بالعمل في هذه المنطقة، بما في ذلك المزايا وحوافز الاستثمار بها، وتوحيد جهة الحصول على التراخيص والموافقات، بعيدًا عن بيروقراطية الجهاز الإداري للدولة. وتهدف المنطقة الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة إلى تكوين شرائح اقتصادية صناعية متكاملة، وتوطين الصناعات والأنشطة التي تتميز بارتفاع الطلب عليه، وتحفيز الكيانات الاستثمارية الدولية الكبيرة للاستثمار في المنطقة، وتحويلها إلى نقطة محورية في سلاسل الإمداد العالمية، وتمتلك مصر منطقتين اقتصاديتين ذات طابع خاص، وهما المنطقة الاقتصادية لقناة السويس ومنطقة المثلث الذهبي الاقتصادية.
استبدال الرسوم الحكومية بضريبة موحدة
يعتبر تعدد الرسوم التي يتحملها المستثمر قبل البدء في مشروعه الخاص، أحد أبرز العوامل التي تعيق بدء ممارسة الاعمال في مشروعات الاستثمارات الداخلية، إذ يلاحظ وجود عدد 26 وزارة تتضمن 83 جهة حكومية تصدر نحو 489 موافقة يتعامل المستثمر مع بعض تلك الجهات للحصول على عدد من الموافقات والتراخيص وفقًا لطبيعة النشاط الاستثماري. ومع تعدد الجهات التي تفرض رسومًا على خدمات مختلفة، يواجه المستثمر تفاوت كبير في الإجراءات والضوابط من جهة لأخرى؛ مما يؤدي إلى عدم اتساق المعاملة المالية ويزيد من تعقيد الإجراءات؛ الأمر الذي يشكل عبئًا ماليًا وإداريًا على المستثمرين وذلك قبل البدء في ممارسة النشاط.
وفي هذا الإطار، وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكومة المصرية باستبدال الرسوم المتعددة التي تفرضها الجهات والهيئات الحكومية المختلفة على الشركات بضريبة إضافية موحدة تُحسب على صافي الأرباح (بعد خصم التكاليف والمصروفات). وينتظر مجتمع الأعمال إصدار الجهات المختصة الآليات التنفيذية للقرار الموضحة لمعدل الضريبة وطريقة حسابها وآلية فرضها بعد الامتثال للضوابط التشريعية اللازمة. ويعد هذا القرار استمرارًا لجهود الدولة الرامية إلى تهيئة بيئة استثمارية أكثر شفافية وعدالة، ويُعد خطوة بالغة الأهمية في إطار الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لتحفيز النمو وتشجيع الاستثمار، على النحو التالي:
تسهيل إجراءات ممارسة الاعمال: يسهم ذلك التوجه في تيسير إجراءات بدء ممارسة الأعمال وخفض تكلفته؛ الأمر الذي يعمل على جذب مزيد من الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية، وتأتي أهمية ذلك التوجه في ظل تعدد التحديات الاقتصادية العالمية والمحلية.
توحيد المعايير المالية: تهدف هذه الخطوة إلى توحيد المعايير المالية بين الهيئات المختلفة، وتخفيف التشتت الإداري الذي يواجه الشركات؛ مما يسهم في تسهيل الامتثال الضريبي وتقليص البيروقراطية، فضلًا عن تعزيز الشفافية والعدالة، والحد من الفساد.
التناسب مع حجم الأعمال: يعد فرض ضريبة موحدة مرتبطة بصافي الأرباح بمثابة تحميل المستثمر بأعباء مالية تتناسب مع نتائج أعماله الفعلية ويتم استقطاعها من الأرباح المحققة وليس من أصل رأس المال المخصص للاستثمار.
الإصلاح المالي والإداري: يسهم هذا التوجه في خفض معدلات البيروقراطية، ويمنح المستثمرين رؤية واضحة وتوقعات دقيقة بشأن التزاماتهم الضريبية؛ مما يعزز من قدرتهم على التخطيط والتوسع طويل المدى. ومع تخفيف الأعباء على المستثمر تزداد فرص الامتثال الضريبي ويتم تدعيم الشفافية والمسائلة.
تخفيف الأعباء على المشروعات الصغيرة والمتوسطة: تستفيد المشروعات الصغيرة والمتوسطة من تخفيف الأعباء المالية والتعقيدات الإدارية مع توفير مناخ أعمال أكثر وضوحًا وتوازنًا. ويتطلب ذلك ضرورة مراعاة أن تكون الضريبة الموحدة مرنة وتتناسب مع حجم وطبيعة كل نشاط اقتصادي، دون أن تُفرَض بمعايير جامدة تُهدر المكاسب المنتظرة من هذا التوجه.
دمج القطاع غير الرسمي: يعد من أحد أبرز أسباب اتساع حجم القطاع غير الرسمي هو تعقد الإجراءات الإدارية وزيادة الأعباء المالية المفروضة على المستثمرين قبل بدء أعمالها؛ الأمر الذي يدفع نحو التوجه لغطاء غير رسمي لبدء النشاط والأعمال ويحرم الدولة من الإيرادات الضريبية ويحرم المستثمر من فرص التوسع والتصدير ويحرم الاقتصاد من زيادة فرص العمل وتشويه البيانات. ومع توحيد كافة الرسوم التي يحمل بها الاستثمار وتحصيلها في شكل ضريبة موحدة تفرض على صافي الأرباح يعد ذلك محفزًا قويًا لإقبال مشروعات الاقتصاد غير الرسمي لتقنين أعمالها والاستفادة من مزايا العمل الرسمي، وانعكاس ذلك على الاقتصاد الكلي من خلال تشجيع الإنتاج والتشغيل وزيادة الصادرات والإيرادات الضريبية للدولة.
وختامًا، تبين أن استبدال الرسوم المفروضة على المستثمرين بضريبة موحدة ليس مجرد إصلاح إداري، بل هو تحول استراتيجي يعكس رؤية واضحة نحو بناء بيئة استثمارية جاذبة وفاعلة. ويعزز التنافسية على المستوى الإقليمي والدولي.